في حياتنا اليومية، نستخدم ألفاظًا كثيرة، يقترن بعضها بمعانٍ ومفاهيم مغلوطة، من هذه الألفاظ كلمة «شرف» التى اقترنت في الأذهان بعذرية المرأة، كما ارتبط مفهوم «الشرف» في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصون المنطقة المحصورة بين أعلى فخذى المرأة، والمحافظة عليها وحمايتها من عبث العابثين. وصار هذا المفهوم للشرف سائدًا في لغتنا اليومية، ومسيطرًا على الأذهان حتى أوشكنا لا نعرف للشرف معنى سوى هذا المعنى ذى الدلالة الجنسية، غافلين عن أن «عدم الوفاء بالعهد» هو إخلال كبير وجسيم بالشرف، وكذلك «الكذب» و«النفاق» و«الغش» و«التكاسل» أو «الإهمال» في أداء الواجب... إلخ. كلها رذائل وممارسات خاطئة تُفقد الإنسان شرفه.
غالبًا ما يقتصر مفهوم «الرذيلة» في مجتمعاتنا على ذلك النوع من السلوك المرتبط بعلاقات جنسية غير مشروعة. فمن الملاحظ أننا في مصر وسائر المجتمعات العربية نعطى للرذائل المتعلقة بالجنس حجمًا هائلًا يكاد يطغى على ما عداها من رذائل، في حين أن «الكذب» مثلًا لا يقل خطورة عن رذيلة «الزنى» - من حيث نتائجه الضارة والمدمرة - بل يفوقها كثيرًا.
إن الأضرار الناجمة عن ارتكاب جريمة «الزنى»، تحيط بمرتكبى هذه الجريمة وحدهم - وليس في هذا إقلال من خطر هذه الجريمة - في حين أن «كذب» السياسيين يُلْحِقُ الضرر بالمجتمع بأسره، وبخاصة إذا مارس شخص ما «الكذب» ليل نهار، وظل يكذب ويكذب على الناس بالقدر نفسه من السهولة واليسر الذى يتنفس بهما. إنه يكذب كما يتنفس ثم يخرج على الناس مدعيًا أنه الصادق الأمين، زاعمًا أنه لم يكذب في حياته قط. إن مثل ذلك الشخص يكون بهذا الادعاء قد انتقل من مرحلة «الكذب» إلى مرحلة «الفجور» والعياذ بالله. حقًا «فاجرٌ» من يكذب ويدعى أنه لم يعرف طريقًا للكذب أبدًا. وكلما اتسعت سلطة «الكذَّاب»، كلما زاد عدد ضحاياه.
إن «الكذب» هو العلة الأولى والسبب الرئيسى لكلِّ الرذائل والجرائم الأخرى، فالكذب هو الجذر الأصلى للإخلال بالشرف، والرذائل الأخرى كافة هى فروع له، إذ إن الرذائل والجرائم جميعها تنجم عن «الكذب»، إنه الأساس الذى تستند إليه كل الأفعال القبيحة. فــ «الغش» هو «كذب»، لأنه محاولة لتحسين القبيح بالباطل. و«عدم الوفاء بالعهد» كذب؛ لأن المرء حين يقطع على نفسه عهدًا لغيره ويعلم أنه لن يفى به فإنه يكذب على غيره من الناس. و«المنافق» حين يكيل المدح لشخصية مسئولة، إنما هو يكذب حين يصف ذلك المسئول بصفات حميدة لا يملكها، وقد يكون متصفًا بنقيضها. و«السطو» على أموال الآخرين وأملاكهم وثمار أعمالهم هو جريمة مصدرها «الكذب»، فالأستاذ الذى يسطو على العمل العلمى لزميله أو حتى «تلميذه»، إنما هو في حقيقة أمره لص عديم الشرف، يمارس «الكذب» بأبشع صوره؛ لأنه ينسب إلى نفسه ما ليس له. و«الزاني» - رجلًا كان أو امرأة - حين يمارس الجنس المحرم في الخفاء، فإن هذا الخفاء والتخفى هو أحد صنوف «الكذب»، بل هو «الكذب» بعينه.
حكى لى أحد الأشخاص أنه كان على علاقة محرمة بامرأة، وحدث أثناء مضاجعته لها أن سمعت المرأة صوت الأذان، فطلبت منه بحدة وصرامة أن يتوقفا حتى انتهاء الأذان، ثم يكملا بعد ذلك ما كانا يمارسانه. انتبهت تلك السيدة لصوت الأذان، ولم تنتبه إلى كونها تمارس الفحشاء. تناقض فج في السلوك ينبنى على تدين زائف لم يصل إلى شغاف القلب، ولم يَمَسَّ جوهر الروح!!
إنه التدين الظاهري، الذى يتمسك صاحبه بالقشور، ويترك اللباب. إن كثيرًا مما نعانى منه مصدره التدين الظاهرى الذى يصل إلى حد الزيف و«الكذب».
علينا أن ندرك جيدًا أن إثارة الشهوة تبدأ بالعقل قبل أن تبدأ بالجسد، ومن ثمَّ، فكثيرًا ما تتملكنى الدهشة ويعترينى العجب من تلك المرأة التى تحجم عن مصافحة أى رجل يدًا بيد، أو الرجل الذى يحجم عن مصافحة أية امرأة يدًا بيد، وكأن ليس هناك ما يشغل هذه النوعية من البشر سوى الرغبة والشهوة الجنسية، وكأن النساء والرجال هم أقطاب جنسية، ما إن يلتقوا في أى وقت وفى أية مناسبة حتى يتفاعلوا تفاعلًا غريزيًا. إن مثل هذا التصور لا يرى في الإنسان (رجلًا أو امرأة) سوى الجانب الحيوانى فقط!!
المرأة إنسان - مثلها مثل الرجل - لها كل الاحترام، لها عقل وفكر ومشاعر، لها مقدرة وإرادة، يجب أن نحترم فيها هذه السمات والخصال كما نحترمها ونقدرها في الرجل، غير أن بعضهم ينظر إلى المرأة - كما أشرنا - على أنها مجرد جسد، أو بتعبير أدق يُنْظَرُ إليها بوصفها كتلة من الجنس، ولذلك فإن المتشددين دينيًا إنما ينظرون إلى جسد المرأة على أنه كتلة من الجنس يجب إخفاؤه، وهذا ينقلنا إلى طرف ثان يقف على الأرضية نفسها، وإن كان يتبع أسلوبًا مختلفًا، وهو نظرة الغرب إلى المرأة. قطاع كبير في الغرب ينظر أيضًا إلى جسد المرأة على أنه جنس يجب إظهاره، إن مسألة المبالغة في الاهتمام بزينة المرأة، والحرص على تعرية أكبر مساحة من جسمها، هذه المبالغة الشديدة بالأزياء والموضة المنتشرة في أمريكا وأوروبا، والتقليد الأعمى لهذه الموضات الذى تقوم به شريحة كبيرة من الفتيات والسيدات في مجتمعاتنا، هذه المبالغة في الاهتمام بشكل المرأة والحرص على تعرية أكبر مساحة من جسمها، إنما يعنى أيضًا النظر إلى المرأة بوصفها جنسًا يجب إظهاره.
وهكذا نرى أن المتشددين دينيًا من ناحية، والمبالغين في الاهتمام بالموضة وأدوات التجميل (المكياج) من ناحية أخرى، يقفون جميعًا على أرضية واحدة، رغم اختلاف منطلق كل فريق منهما، فهما يمثلان وجهين لعملة واحدة، وإن بديا مختلفين أشد الاختلاف. إنهما يتفقان على شىء واحد هو النظر إلى المرأة لا بوصفها إنسانًا، وإنما بوصفها كتلة من الجنس!!
بقى أن نقول إننا في حاجة إلى نشر الثقافة الجنسية بين أبنائنا (ذكورًا وإناثًا)، على أن يبدأ هذا التثقيف من عمر مبكر وقبل بلوغ سن العاشرة، فالملاحظ أن الأطفال اليوم يدخلون مرحلة البلوغ الجسدى منذ عمر مبكر، ولكن هذا البلوغ لا يصاحبه بلوغ عاطفي. إن التوعية الجنسية يجب أن تبدأ على يد العائلة والمدرسة، من خلال حديث صريح وعلمى مع الأطفال عن أمور تتعلق بالجنس، وتنبيههم إلى ظاهرة الاعتداء الجنسي. الأهم من ذلك كله يجب على الأب والأم ومؤسسات المجتمع كافة مساندة الطفل والوقوف بجانبه دون تردد حال تعرضه لأى اعتداء جنسي.
إن الحرية المفرطة مثلها مثل الكبت الشديد، كلاهما يؤدى إلى شرور كثيرة، أبرزها اضطراب الإنسان وشذوذ مسلكه. الوسطية والاعتدال هما السبيل الأقوم.