الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

«الذكاء الاصطناعي» يستولى على الديمقراطية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لسنوات طويلة تجاهل باحثو العلوم الاجتماعية دراسة الآثار المحتملة لتطبيقات الذكاء الاصطناعى على الظواهر الاجتماعية، فجُل الاهتمام به أتى من الاقتصاديين والفنيين. ومع تطور الذكاء الاصطناعى إلى درجة امتلاكه القدرة على تغيير كافة مناحى الحياة تمامًا، وبخاصة السياسية منها، بدأ على استحياء دراسته كمؤثر ذى أهمية مركزية عليها، حتى تم استخدامه للتأثير في الرأى العام، ومعرفة التوجهات السياسية للأفراد من خلال تحليل البيانات الهائلة من وسائل الإعلام على اختلافها، والتى مكن الذكاء الاصطناعى من الوصول إليها بشكل غير مسبوق. 



هذا دفع بعض الباحثين لإثارة تساؤلات حول ماهية تأثيرات الذكاء الاصطناعى على الظواهر السياسية، وبخاصة الديمقراطية، عقب استخدامه في بعض الحملات الانتخابية-والتى تشكل جانبًا أساسيًا للديمقراطية- وأبرزها حملة أوباما في ٢٠٠٨ و٢٠١٢؛ حيث استخدم القائمون على الحملة لأول مرة خوارزميات التعلم الآلى وتحليل البيانات الضخمة لتحديد وبناء كل جانب من جوانب استراتيجيتهم في الحملة، وكذلك لتعبئة الناخبين وإقناعهم بتقديم الدعم لأوباما، كما تم استخدامه من قبل الراغبين في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى للتأثير في إرادة الناخبين في استفتاء الخروج والدفع بها نحو التصويت لصالح الخروج بشكل يجعل الأمر يبدو وكأنه إرادة الناخبين أنفسهم. ولكن عقب خروج مظاهرات منددة بالخروج، وكذلك زيادة القوى السياسية- خاصة البرلمانية- الراغبة في البقاء وليس الخروج، واتهام رئيس الوزراء بوريس جونسون إياهم بالعمل ضد الديمقراطية وضد إرادة الشعب أصبح من الأهمية إثارة تساؤلات حول ما إذا كان الخروج هو رغبة الشعب حقًا! وما إذا كان الاستفتاء تم بشكل نزيه وديمقراطى؟ كل هذا دفع نحو القول باحتمالية تأثير الذكاء الاصطناعى المستخدم على عملية الاستفتاء.



الذكاء الاصطناعى والديمقراطية 
يُعد الذكاء الاصطناعى أداة متطورة للغاية تستخدم في عدة سياقات، منها السياق الديمقراطي، عبر أساليب معقدة تستطيع تحليل مجموعات كبيرة من البيانات عن عامة السكان، على غرار الاستطلاعات، تسعى إلى اكتساب المعرفة حول الناخبين وتفضيلاتهم وتصرفاتهم ومعتقداتهم ومواقفهم، ولكن الذكاء الاصطناعى بخلاف الأدوات التقليدية، أكثر دقة وشمولًا، وأكثر قدرة على استنتاج معلومات عن الناخبين، مما كان ممكنًا في السابق. فيُمكِن استخدام التعلم الآلى المحللين من الوصول إلى معلومات مفصلة ودقيقة عن الناخبين. لا تستند هذه المعرفة إلى المعلومات الجغرافية والديموغرافية فحسب، بل تعتمد أيضًا على ما يُسمى بالمعلومات النفسية، وهو تقدير أكثر تفصيلًا وشمولًا للسمات الشخصية للناخبين. 
تأسيسًا على ذلك يؤدى امتلاك المقدرة على استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعى إلى اختلال توازن القوى بين المرشحين، بما يؤثر سلبًا في ديمقراطية الانتخابات من منطلق أن القدرة التنافسية على قدم المساواة للحصول على دعم الناخبين، باعتبارها أحد المكونات المركزية للانتخابات الديمقراطية، أضحت معرضة للتهديد نظرًا لامتلاك بعض المرشحين دون الآخرين تلك الأداة، بما يمكنهم من التأثير في الموضوعات محل النقاش العام، وكذلك على مواقف الناخبين مقارنة بأولئك الذين يستخدمون إعلانات تقليدية، كما يؤثر الذكاء الاصطناعى بهذه الكيفية على شفافية ونزاهة الانتخابات، حيث يمكن استخدامه للتضليل والتلاعب وتشويه الخصوم من خلال الإعلانات المروجة لمعلومات سياسية مضللة تحفز المتلقي- الناخب- على الاقتناع بها، خاصة أن سلوك التصويت لا يتم تحديده دائمًا من خلال التفكير المنطقى في المعلومات المتاحة، ولكن في أشياء مثل التعرف الإيديولوجى والاختصارات الإدراكية. وهو ما يمثل نقطة ضعف في الفكرة الديمقراطية ويمنح المرشحين إمكانية التأثير في الناخبين، ليس على أساس ادعاءات واقعية، ولكن على جاذبية عاطفية، وما شابه. ويُحدث التعلم الآلى فرقًا مهمًا في هذا الصدد، نظرًا لقدرته المعقدة على معرفة الناخبين واستهدافهم بشكل فعال. وبالتالي، فإنه سيعيق إمكانية الفهم المستنير والتفكير المنطقي.
ويمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعى أيضًا لعزف الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم، إما لقمع الناخبين الذين يُعتقد أنهم يدعمون الخصم أو لمنع بعض الجماعات من الحصول على نفوذ سياسي، وبشكل أكثر سرية من ذى قبل، من خلال التأثير في مشاعر الناخبين وحالتهم المعرفية التى تم تحليلها مسبقًا باستخدام التعلم الآلي، بما يمكن من إيجاد طرق غير مباشرة لعزف الناخبين، وخفض إقبالهم على التصويت.


استفتاء البريكست 
في ٢٣ يونيو ٢٠١٦، صوت الشعب البريطانى للخروج من الاتحاد الأوروبي. أنتج هذا القرار المفاجئ مجموعة واسعة من النظريات التى تحاول تفسير هذه النتيجة، بدءًا من الانطباعية الثقافية التاريخية العميقة الجذور؛ احتجاج ديمقراطى شعبى لاستعادة السيادة الوطنية؛ تعبير عن المشاعر المناهضة للهجرة لمجرد كونه أحد أعراض الموجة اليمينية التى اجتاحت السياسة الأوروبية بشكل عام... إلخ. ومن الأسباب المفسرة أيضًا استخدام الراغبين في الخروج من الاتحاد الأوروبى الذكاء الاصطناعى في حملتهم السياسية لترجيح كفة الخروج من الاتحاد على كفة البقاء، سواء من خلال التأثير في الناخبين لدعم ذلك الهدف أو من خلال خفض إقبالهم عن الاستفتاء، حيث إن جزءًا كبيرًا من السكان في المدن الكبرى بالمملكة لم يصوتوا. جدير بالذكر أن الذكاء الاصطناعى تم استخدامه من قبل ٣ فواعل للتأثير في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، الأول هى شركة «كامبريدج أناليتيكا» (Cambridge Analytica)، والثانى هم وسائل التواصل الاجتماعي المستخدمة من قبل مؤيدى الخروج، والثالث هم الأطراف الأجنبية.
فقد أكدت عدة تحقيقات أن شركة «كامريدج أناليتيكا»- التى تستخدم تحليل البيانات الضخمة لتوجيه الحملات السياسية- كانت عاملًا رئيسيًا في نتيجة التصويت لصالح الخروج. فقد نفذت ما يُطلق عليه «إستراتيجية الاستهداف»، من خلال جمع كميات هائلة من المعلومات حول الشعب البريطاني، ليس فقط من وجهات نظرهم السياسية المعلنة، ولكن أيضًا من مجموعات بيانات المستهلكين ووسائل التواصل الاجتماعي. وباستخدام معلومات من فيسبوك وتفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى والتحليل من خلال تقنيات التعلم الآلي، تمكنوا من إجراء ما يسمى بـ«التوصيف البيولوجى النفسى الاجتماعي على المستوى الفردي»، وتعديل حملتهم وفقًا لذلك. جدير بالذكر، أن التوصيف البيولوجى النفسى الاجتماعي هو طريقة تم تطويرها فيما يُسمى بـ«الحرب المعرفية»، ويتم التعبير عنها أحيانًا بمفهوم «كسب القلوب والعقول»، ويستخدم لتغيير الروايات والمواقف والتوجهات السياسية للأفراد. وباستخدام أداة الذكاء الاصطناعى تم بناء حملة استهدفت الناخبين الأفراد بطرق محددة، تحولت من مجرد حملة من إعلانات ودعاية انتخابية مبنية على المعلومات إلى حملة تهدف إلى إطلاق ردود انفعالية، وهو ما يكون أكثر نجاحًا في إقناع الناخبين. مرت عملية وضع هذه الحملة بثلاث مراحل: الأولى جمع معلومات عن الأفراد باستخدام اختبارات الشخصية عبر الإنترنت، الثانية جمع هذه المعلومات مع معلومات من الوسائل الاجتماعية وقواعد بيانات المستهلك في قاعدة بيانات واحدة، والثالثة تحليل قاعدة البيانات وإنتاج دعاية فردية مصممة خصيصًا للمستقبِل. 
بجانب الدور الذى قامت به شركة «كامريدج أناليتيكا»، قد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا رئيسيًا أيضًا في دعاية الخروج من الاتحاد الأوروبى لا يختلف عما قامت به الشركة، مثلما تلعب دورًا في الحياة اليومية للأفراد عن طريق التحكم في المعلومات التى تعرض عليهم، السلع والمنتجات التى يجب شراؤها، وحتى الأفكار السياسية الواجب تأييدها، وهو ما أكده بولونسكى في الدراسة التى قام بها لتحليل تفاعل الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي أثناء حملة الخروج من الاتحاد. فقام بولونسكى بإنشاء تصور للـ Hashtags المتعلقة بالبريكست (وأوضح أن النقاش عبر وسائل التواصل حول البريكست كان مستقطبًا للغاية، بالكاد يتفاعل المعسكران- معسكر الخروج، ومعسكر البقاء-، ويُظهر تحليل بولونسكى أيضًا أن معسكر الخروج كان أكبر وأكثر تنظيمًا في اتصالاته من معسكر البقاء. 
شبكة دلالات تم إنشاؤها بواسطة «Polonski»، والتى توضح أحجام الوصلات البينية للهاشتاجات المتعلقة باستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يُضاف للسابق، احتمالية وجود تدخلات أجنبية وبشكل أساسى «روسيا» في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبى باستخدام تقارير إخبارية متحيزة تنتجها شركات إعلامية مرتبطة بالدولة الروسية مثل «آر تي، وسبوتنك نيوز»، أو باستخدام الروبوت، أو البرمجيات المصممة لمحاكاة السلوك البشرى عبر الإنترنت للتأثير في الخطاب السياسى واستقطاب النقاش. هذا أكده تقرير مجلس العموم البريطانى الذى نص على عدم استبعاد احتمال وجود تدخل أجنبى باستخدام الروبوتات للتأثير في نتيجة الاستفتاء. 
وأشار التقرير إلى أن فهم المملكة المتحدة للسيبرانية يعتمد على الإنترنت والكمبيوتر في حين تستخدم روسيا والصين نهجًا إدراكيًا قائمًا على فهم علم النفس الجماهيرى، وكيفية استغلال الأفراد، وهو ما دفعهم في نهاية التقرير إلى التوصية بضرورة مراجعة إستراتيجية الأمن السيبرانى فيما يتعلق بالانتخابات. 
في الختام، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعى أثر في ديمقراطية استفتاء البريكست من خلال عدة طرق؛ أولها أنه أسهم في زيادة تركيز السلطة في أيدى أقلية مؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبى تمكنت بواسطته من فرض إرادتها، وكذلك المساهمة في زيادة الاستقطاب في النقاش.