يتابع البروفيسور جيفرى وورو أستاذ التاريخ العسكرى البارز بجامعة تكساس الأمريكية، والذى يعد من أهم الأكاديميين فى الولايات المتحدة الأمريكية فى مجال الدراسات الاستراتيجية، ومؤلف كتاب «الحرب والمجتمع فى أوروبا»، وكتاب «الرمال المتحركة.. سعى أمريكا إلى السيطرة على الشرق الأوسط»، والذى نقله إلى العربية صلاح عويس، والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة، بقوله: إذا نظرنا إلى الهجوم الذى عبر عنه جورج دبليو بوش لكى يبرر الحرب ضد العراق فى عام 2003، ويضخم غارات العراق الجوية ضد الأكراد والإيرانيين كدليل على إرهاب دولة البعث، نجد الأيدى الأمريكية الحقيقة واضحة بشكل عام فى الحرب الإيرانية - العراقية، ففى عام 1984 أعاد الرئيس رونالد ريجان العلاقات الدبلوماسية العادية مع العراق التى كانت قد قطعت أثناء حرب الأيام الستة عام 1967، وعزز قرار توجيهها لمجلس الأمن القومى نص على أن الولايات المتحدة «سوف تقوم بكل ما هو ضرورى وقانونى لمنع العراق من خسارة حربها مع إيران»، وقال ريجان إن الولايات المتحدة «لا يمكنها السماح بهزيمة العراق»، ولقد برز صدام حسين كزعيم لا يمكن الاستغناء عنه، وكرجل استطاع توحيد نخب بغداد تحت ضغط حرب لا يمكن كسبها وحشد العراق ضد إيران. وهكذا قام ريجان بهدوء بنقل العراق من قائمة واشنطن الخاصة بالدول الراعية للإرهاب فى فبراير 1982، وبدأ فى توجيه اعتمادات التصدير والمعونة الغذائية والدعم العسكرى إلى صدام. ولا يذكر قرار مجلس الأمن القومي، الذى كتب بدهاء، إلا القليل عن «مفهوم ريجان الاستراتيجى للتخطيط قصير المدى»، ويكاد يكون هناك تعتيم تام عليه، ولكن القرار أشار إلى أن هدف واشنطن هو فرض قبول إسرائيل على العراق.
وأعرب ريجان عن أسفه لاستخدام العراق الأسلحة الكيميائية، ولكنه أوضح أن النفط هو أسمى اهتمامات أمريكا: «بسبب الأثر الحقيقى والنفسى لانقطاع تدفق النفط من الخليج الفارسى على النظام الاقتصادى الدولي، يجب أن نؤكد استعدادنا للتعامل الفورى مع الأفعال التى تستهدف قطع مسار هذا التدفق». وسوف يكون ذلك فيما بعد رؤية جورج دبليو بوش، وهى: إجبار العراق على الاعتراف بإسرائيل، وضخ النفط والعمل باعتباره قاعدة أمريكية ووكيلا لأمريكا فى الشرق الأوسط. ولكى يجمع ريجان هذه الأهداف أرسل دونالد رامسفيلد إلى بغداد كمبعوث خاص فى عام 1983 ثم فى عام 1984. وفى اجتماع ودى دام تسعين دقيقة، ضغط رامسفيلد على صدام لكى يمد خطوط أنابيب جديدة عبر العراق إلى المملكة العربية السعودية والأردن، حتى يمكن زيادة صادرات النفط إلى الغرب، التى قطعتها المعارك الإيرانية فى الخليج وكذلك إغلاق سوريا لخط الأنابيب فيها. وظهر رامسفيلد فى بغداد وهو يصافح صدام فى نفس اليوم من عام 1984، الذى أصدرت فيه الأمم المتحدة تقريرًا ينتقد الرئيس العراقى بشدة بسبب استخدامه اليومى لغاز الخردل وغاز الأعصاب مثل غاز التابون ضد إيران. وكان رامسفيلد قد شغل منصب وزير الدفاع فى إدارة الرئيس جيرالد فورد، وهو الذى سيقوم بعد عشرين سنة بإدانة استخدام صدام للأسلحة الكيميائية.
وقد ظهر فى وقت لاحق أن جورج هـ. دبليو بوش نائب الرئيس قد نسق معظم الدعم المقدم لصدام حسين الذى جعل حرب بوش ضد صدام عام 1991، وحرب ابن بوش ضد صدام عام 2003 مدعاة للسخرية، مثل الحقيقة التى كشفت عن أن رامسفيلد كان المدير التنفيذى لعملاق صناعة المستحضرات الصيدلانية وهى شركة «جى. دى. سيرل».
وفى عامى 1987- 1988 عادت واشنطن إلى الميل إلى جانب العراق. وبدأ السلاح البحرى الأمريكى فى رفع علم الولايات المتحدة على ناقلات النفط الكويتية فى الخليج الفارسى لحمايتها من الهجمات الإيرانية وحماية عوائد النفط العراقي، وبدأ كذلك فى قصف منصات النفط الإيرانية والسفن الطافية. وبفضل صفقة إيران - كونترا بقى الجيش الإيرانى يقاتل حتى السنة الأخيرة من الحرب، ولكن ما أفدح الثمن!
إذا ألقينا نظرة شاملة على مشهد عام 1989 الفاسد، وجدنا أن إدارة جورج هـ، دبليو بوش القادمة تكرر نفس الكلام، ومفاده أن «السبيل إلى نفط الخليج الفارسى وأمن الدول الصديقة الرئيسية أمران حيويان للأمن القومى الأمريكى». وحتى ذلك الوقت كان بوش الحادى والأربعون يبدى تواضعًا أكثر من ابنه حامل المسدس، وكانت الولايات المتحدة تبدى رغبتها فى دعم القوى الخليجية المحلية «لتمكينها من لعب دور أكثر فاعلية فى دفاعها عن نفسها، وبذلك تخفض الحاجة إلى التدخل العسكرى الأمريكى الأحادى»، وكانت إدارة ريجان باستراتيجيتها وأعبائها المالية الهائلة ومناهجها الاقتصادية الحافلة بالشعوذة، قد حملت الولايات المتحدة بدين قومى بلغ 2.6 تريليون دولار، وجعلت واشنطن فى حاجة إلى التخلى عن أكبر جانب ممكن من أعباء أمنها القومى «للدول الغربية الحليفة واليابان»، وكذلك «للدول الإقليمية الصديقة». وكانت المملكة العربية السعودية هى الصديق الوحيد الباقي، ولكن بوش كان تواقًا إلى إقامة علاقات أفضل مع العراق فقط لو كان ممكنًا حث صدام على أن يكون معتدلًا فى خطبه المعادية لإسرائيل، وعلى التخلى عن أسلحة الدمار الشامل.. وللحديث بقية