تسعى الدولة المصرية إلى إحداث نهضة شاملة فى جميع المجالات، وتتطلع إلى التحرك السريع لمواكبة التطور المذهل الذى يشهده العالم المتقدم فى الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وفى هذا الاتجاه شهدت العاصمة الإدارية الجديدة، فى وجود الرئيس عبدالفتاح السيسي، مناقشات عميقة خلال حدثين مهمين هما المنتدى العالمى للتعليم العالى (٤-٦ أبريل)، والمؤتمر الوطنى للشباب (٣١ يوليو ٢٠١٩)، فما هى الثورة الصناعية الرابعة؟ وما هو التحول الرقمي؟ وما تأثير ذلك على التعليم والصحة والاقتصاد والخدمات الحكومية ومحاربة الفساد؟
منذ فجر التاريخ، كان الإنسان يعتمد فى حياته وغذائه وتحركاته على ما خلقه الله سبحانه وتعالي، من بشر وحيوان ونبات وعناصر الطبيعة. ومع تطلع الإنسان إلى الانتقال والتطور وتوفير الوقت والجهد والمال، ولمواكبة الزيادة المطردة فى أعداد السكان، فقد بدأت الاكتشافات الصناعية والتى تم تسميتها بالثورة الصناعية (Industrial Revolution)، ويمكن تقسيمها إلى أربع ثورات فى شكل حلقات متصلة، بدأت فى القرن الثامن عشر وبلغت ذروتها فى القرن الحادى والعشرين.
الثورة الصناعية الأولى؛ حدثت فى أوروبا وخاصة إنجلترا فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (١٧٦٩-١٨٧٠)، وفيها تم اكتشاف طاقة البخار لاستخراج الفحم وتحريك المحركات. ومع اكتشاف القطار الذى يتحرك بالبخار بواسطة جميس وات الاسكتلندى سنة ١٧٦٩، وإنشاء أول سكك حديدية لنقل الركاب فى انجلترا (بين مانشستر وليفربول) سنة ١٨٣٠. وجدير بالذكر هنا أن ثانى سكك حديد فى العالم كانت فى مصر سنة ١٨٣٤ (أى بعد ٤ سنوات فقط من انجلترا). ومع استخدام القطار فى نقل الأفراد والبضائع، ومع تسخير الماكينة لتحقيق أهداف الإنسان، والانتقال بأعداد كبيرة إلى أماكن بعيدة فى وقت قصير، دخلت البشرية فى عصر النهضة الصناعية الأولي، وحققت وفرة فى الإنتاج واختصارا فى الوقت والجهد، وبدأ الإنسان فى التنافس على اختراع المحركات وطرق الاتصالات والحصول على مصادر الطاقة.
الثورة الصناعية الثانية؛ حدثت فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (١٨٧٠-١٩١٤)، وتم خلالها عدة اكتشافات كبرى أهمها اكتشاف الكهرباء والتليفون والتلجراف، وإنتاج الفولاذ فى الأفران، وظهور النفط كمصدر للطاقة، ومحرك الدفع الذاتي، الذى يدير السيارات والطائرات، وانتهت هذه المرحلة بالحرب العالمية الأولي.
الثورة الصناعية الثالثة، وتسمى بثورة الرقمنة البسيطة (Digital Age)، وتمتد من منتصف القرن العشرين إلى سنة ٢٠١٦، وكان الكمبيوتر الشخصى والإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هى أهم سماتها. وخلال هذه الفترة القصيرة (حوالى ٥٠ سنة)، حدث الانفجار المعرفى، والتطور التكنولوجي، والعولمة وحرية وسرعة انتقال المعلومات والعولمة (Globalization).
الثورة الصناعية الرابعة، أطلق كلاوس شواب رئيس المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس بسويسرا سنة ٢٠١٦، مسمى الثورة الصناعية الرابعة. وأهم ما يميزها هو الرقمنة الإبداعية القائمة على مزيج من الاختراعات فى مجالات البيوتكنولوجيوى والنانوتكنولوجى والذكاء الاصطناعي، والأقمار الاصطناعية والفراغ الخارجى (Cyberspace)، والتحول الرقمي، والإنسان الآلى وغيرها من الاكتشافات الحديثة التى حولت العالم إلى قرية صغيرة وأصبحت طرق الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات جزءًا لايتحزأ من المجتمع. وظهرت المدن الذكية وارتبطت حركة الفرد والمجتمع بالشبكات الدولية والفضاء الخارجي. وظهرت كيانات عملاقة وشركات كبري، وبيزنس بمليارات الدولارات، مثل شركات IBM، وميكروسوفت، وجوجل، وأمازون، وفيسبوك وغيرها من شركات التواصل وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي.
وفى ظل التطور الهائل والسريع فى مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وتدخلها فى الحياة اليومية للأفراد والجماعات، كان لزامًا على الإدارة المصرية، وعلى رأسها الرئيس، أن تواكب التطور التكنولوجي، وأن تدخل التحول الرقمى فى أولويات الحكومة والأجهزة الرقابية والوزارات ونخص هنا المجالات الآتية:
١- التعليم والتعليم العالى والبحث العلمي، أدخلت وزارة التعليم نظام التابلت (بكل ماله وماعليه)، وبدأت فى إنتاج برامج إلكترونية وامتحانات غير تقليدية على الكمبيوتر وإنشاء بنك المعرفة. وبدأت وزارة التعليم العالى فى إنشاء بنوك للأسئلة وإقامة امتحانات معرفية موحدة على الكمبيوتر لطلاب الجامعات بدءا بالقطاع الطبي، وسوف تستمر فى تطوير نظم التدريس والتدريب والامتحانات لتحل التكنولوجيا الحديثة محل الطرق التقليدية القديمة. وأهم من ذلك هو إحداث نقلة نوعية فى طرق الامتحانات تحقق العدالة المطلقة بين الطلاب.
٢- فى مجال الصحة، صاحب البدء فى تنفيذ التأمين الصحى الشامل فى محافظة بورسعيد، عمل سجلات طبية إلكترونية لكل الأفراد، وسوف يستمر بناء السجلات الإلكترونية الطبية لكل المواطنين المصريين مع التوسع فى تطبيق نظام التأمين الصحى الشامل.
وعند اكتمال هذا السجل الكامل للشعب المصري، يمكن بدقة دراسة متطلبات واقتصاديات الصحة، ووضع السياسات الصحية لتوفير الدواء والرعاية الصحية ومعرفة الخريطة العامة لمدى انتشار الأمراض، ولقياس مدى فعالية وكفاءة السياسات الصحية، وتحويل المرضى إلى المستويات الأعلى من الخدمة بسرعة ودقة وأمان.
٣- فى مجال الاقتصاد والاستثمار ومحاربة الفساد الإداري؛ الاقتصاد المبنى على المعرفة والبحث العلمى هو أساس النمو الاقتصادى فى العصر الحديث. وهذه الصناعه لاتحتاج إلى مواد خام أو ثروات ومعادن، وإنما تعتمد على النشاط الذهنى للأفراد.
ومن حُسن الحظ أن مصر يتوفر بها قاعدة جيدة جدا فى مجال البرمجيات (لايسبقنا إلا الهند فقط)، وفى مصر أعظم المبرمجين وخبراء نظم التشغيل والسوفت وير والشبكات.
وعند توفر قاعدة بيانات مصرية صحيحة ومتكاملة، سوف تتمكن الدولة المصرية من محاربة الفساد الإداري، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، وزيادة الإنتاج المعرفى وخدمة البحث العلمي.
٤- فى مجال الخدمات الحكومية ومحاربة الفساد والجريمة المنظمة، إنشاء قاعدة بيانات صحيحة، ستكون بمثابة العقل للدولة المصرية، وسوف تربط الجهاز الإدارى للدولة مع الوزارات والأجهزة الرقابية. وسوف يؤدى ذلك إلى سرعة استخراج المستندات الحكومية، وإلى تقليل التعامل المباشر مع العنصر البشرى فى الجهاز الإدارى للدولة.
وكما أعلن الرئيس فإن العمل قد بدأ بالفعل لإعداد قاعدة بيانات لكل المصريين، وحمايتها فى أماكن آمنة وبعيدة عن التخريب والاختراق بكل ما تستطيع الدولة المصرية.
ومع اعترافى بضخامة مشروع التحول الرقمى المصري، وإنشاء قاعدة بيانات شاملة، تغطى كل المصريين فى الداخل والخارج، فإننى على ثقة أن مصر تستطيع أن تحقق المعجزات، وأن تواكب التطور الهائل فى مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وأن تكون مركزًا عالميًا لطرق الاتصالات الحديثة فى العالم.
وفى هذا المقام، لا يسعنى إلا أن أتقدم بالتحية والتقدير إلى مركز الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بجامعة المنصورة، والذى كان سباقا فى إنشاء برامج إلكترونية لخدمة العملية التعليمية والخدمية والبحثية لكل الكليات والمراكز الطبية بجامعة المنصورة. بل وتم الاستعانة بها من قبل وزارة التعليم العالى لخدمة باقى الجامعات المصرية والعربية. واسمحوا لى أن أخص بالذكر هنا، أستاذنا الدكتور أحمد أمين حمزة، رئيس جامعة المنصورة الأسبق، الذى أنشأ مركز التقنية بالجامعة، منذ أكثر من ٢٠ سنة. ورحم الله عبقرى البرمجيات الأستاذ الدكتور منير عبدالرزاق، والذى جعل جامعة المنصورة الأولى فى هذا المجال.
وفق الله مصر وحقق طموحاتها المشروعة فى تحقيق النهضة الشاملة التى تستحقها.