يتابع البروفيسور جيفرى وورو أستاذ التاريخ العسكرى البارز بجامعة تكساس الأمريكية، والذى يعد من أهم الأكاديميين فى الولايات المتحدة الأمريكية فى مجال الدراسات الاستراتيجية، ومؤلف كتاب «الحرب والمجتمع فى أوروبا» وكتاب «الرمال المتحركة.. سعى أمريكا إلى السيطرة على الشرق الأوسط»، والذى نقله إلى العربية صلاح عويس، والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة، بقوله: «تسلم اليهود الكتلة الأكبر من فلسطين من الأمم المتحدة على الرغم من أنهم كانوا يمثلون نصف عدد العرب فى فلسطين: 650 ألف يهودى، فى مقابل 1.3 مليون فلسطيني. وحصل اليهود على 5700 ميل مربع، والعرب على 4300 ميل مربع.
ولم يكن الأمريكيون وحدهم فى الضغط لتلبية المطالب اليهودية، الأمر الذى أذهل العرب وأثار غضبهم. وأيد الرئيس الفرنسى شارل ديجول إسرائيل الموسعة باعتبار ذلك «مجرد تعويضات» عن معاناة اليهود فى الحرب العالمية الثانية، وكوسيلة لإبطاء انتشار القومية العربية الثورية التى هددت فرنسا فى الجزائر، بالإضافة إلى إضعاف الموقف البريطانى فى الشرق الأوسط. وكان هيرشل جونسون - رأس الحربة فى الحملة الأمريكية - فى الأمم المتحدة، والذى أرهقته الضغوط، مغاليا فى الإعجاب بالقرار وتفوه بكلمات فاقت بلفور فى سذاجتها، إذ قال: «من ذا الذى يضن على الشعب اليهودى بتلك البقعة الصغيرة المسماة فلسطين».
وتعبيرًا عن رأيه فى مستقبل التقسيم، أعلن جونسون أن الحدود بين الدولتين اليهودية والعربية ستكون «ودية مثل الحدود الممتدة على طول ثلاثة آلاف ميل بين كندا والولايات المتحدة». أما السفير الأمريكى فى الأمم المتحدة وارين أوستن، فقد كان أقل تفاؤلا، وكان يرى أن المستقبل يبدو كئيبا، وأن دولة يهودية منفصلة «سوف تضطر للدفاع عن نفسها بحراب البنادق إلى الأبد حتى آخر نقطة من دمائها». ونزفت الدماء فى إبريل 1948، عندما جلت القوات البريطانية من فلسطين وبدأت الميليشيات اليهودية والعربية فى القتال من أجل ميراثها.
عندما انطلق اليهود لتوسيع مدى أهدافهم كانوا هم الذين ارتكبوا أكبر عمليات القتل وليس العرب. وكانت القرى العربية تنهار تحت زخات قليلة من قذائف المورتر، بينما كانت الكيبوتز اليهودية تبنى من أجل الحرب، ويتم تحصينها بالخنادق والمخابئ، وفى أشد مراحل الحرب من ديسمبر 1947 إلى مايو 1948 فشل العرب فى الاستيلاء على مستوطنة يهودية واحدة، فى الوقت الذى استولى فيه اليهود على مائتى مدينة وقرية عربية.
وكان لدى الهاجاناه هيئة أركان حرب مناسبة ابتكرت «خطة داليت» فى عام 1948. ونصت الخطة بوضوح على أن حرب 1948 يجب استخدامها، لا فى الدفاع عن المناطق اليهودية فحسب، بل وفى السيطرة على أراض خصصت للعرب بناء على قرار الأمم المتحدة بالتقسيم. ويجب زيادة المستوطنات ومناطق الاحتشاد اليهودية بالمراكز التى يسكنها العرب «الواقعة داخل أو قرب النظام الدفاعى» لمنعهم من استخدامها كقواعد. وقال بن جوريون لقادته العسكريين بصراحة: «فى كل هجوم من الضرورى أن توجهوا ضربة حاسمة، وأن تدمروا المكان وتطردوا السكان».
وقد عاشت مصر حتى عام 1948 فى عزلة عن العالم العربى الفسيح، وراقبت الثورة العربية ضد الأتراك ورفضت استغاثات الفلسطينيين ضد اليهود عندما أعلن وعد بلفور. وقال سعد زغلول رئيس الوزراء لوفد فلسطين: «عودوا وأبرموا سلاما مع المستوطنين اليهود». «هم أيضا ساميون وسوف يبقيهم البريطانيون تحت السيطرة». وكانت مصر حتى عام 1948، قد أخذت طابعا أوروبيا يليق ببلد خضع للنمط الأوروبى فى عهد الملك فاروق، وقاوم دعوة القومية العربية التى بدأت تستحوذ على دمشق وبغداد فى نهاية القرن التاسع عشر.
وفجأة تورطت مصر فى العالم العربى بسبب قيام الجنود والإرهابيين اليهود بارتكاب المذابح ضد سكان فلسطين العرب وإخراجهم من ديارهم ودفع ثلاثمائة ألف لاجئ إلى اللجوء إلى الدول المجاورة. وأصبحت للمصريين القيادة السياسية للجامعة العربية للحيلولة دون طموح بغداد إلى حكم منطقة الهلال الخصيب من بيروت نزولا إلى البصرة، كما أصبحت مصر أيضا قلب الائتلاف العسكرى ضد إسرائيل أو أى خطر آخر، وهو دور ظلت تقوم به حتى عام 1973. وقد صمدت وحدة العالم العربى بثبات لا يصدق بسبب السلوك الإسرائيلى فى فلسطين، الذى لم يأبه الإسرائيليون حتى بإبقائه طى الكتمان منذ البداية. وقد تباهى ألون بالقول فى صحيفة «عصابة البالماخ»: إننا «نطهر» فلسطين من العرب.
الغريب أن الرئيس ترومان لم يكن قلقا من هذه التطورات. ولما كان متلهفا على استباق موسكو وتوجيه ضربة إليها، وعلى تأكيد استقلاله عن أولئك الحذرين من «رجال وزارة الخارجية ذوى السراويل المخططة الذين يقفون ضد سياستى المؤيدة لإسرائيل»، أعلن ترومان اعترافه بإسرائيل فى اليوم الذى أعلن فيه عن قيامها فى 14 مايو 1948. وكان جورج مارشال وزير الخارجية شديد الغضب. وكان منذ قليل قد حذر أبا أيبان من أن أمريكا «لن تكفل الصهاينة إذا أعلنوا الاستقلال».
وللحديث بقية..