رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عيسى بن هشام بين الخطاب والمشروع «3»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد اجتهدنا فى المقالات السابقة فى إلقاء مزيدٍ من الضوء على الملابسات والخلفيات والوقائع التى انتجت النص الذى نحن بصدده أعني (حديث عيسى بن هشام ) وبينا أنه من أهم الخطابات التى انتهجت التفكير الناقد وفلسفة المقاومة وذلك في ثوب أدبى رمزى، وأن كاتبه انتحل أسلوب المقامة الجامع بين الهزل والجد كما استفضنا فى الحديث عن منهج المؤلف (محمد المويلحى) وأسلوبه ووجهته وأشهر المسائل والقضايا التى تناولها بالنقد كما أشرنا إلى أن عيسى بن هشام وأحمد باشا هما محور كل الحكايات اللذين يسيران الأحداث ويصدران الأحكام وفقًا لتحليلهما للأوضاع والوقائع وها نحن نبدأ أولى القضايا التى صوبا إليها سهام نقودهما وحراب انتقاداتهما وهى أحوال رجال البوليس وجهاز الشرطة وأثرهما فى المجتمع المصرى آنذاك أى فى الفترة (١٨٩٨م - ١٩٠٣م) وهى الفترة التى كتب فيها المويلحى مقالاته أو مقاماته. وسوف نحاكى فى الصفحات التالية أهمها وذلك لتوضيح مواطن النقد فيها بغض النظر عن أسلوب النص الأصلى وجرسه وكلماته وذلك فيما عدا العبارات المحورية الموجهة للنص. 
فلم يكن المويلحى - كما ذكرنا - بوقًا من أبواق السلطة أو مداهنًا لذوى الجاه والحكم، ويتضح ذلك جليًا فى انتقاداته اللاذعة لمواطن الإهمال ومواضع الفساد فى مؤسسات الدولة، وذلك فى أولى حكاياته التى يرويها فى مقاماته الخيالية من حيث زمان ومكان إحداثها، وأقرب ما تكون إلى الواقع المعيش فى أحوالها وسلوك أربابها. وها هو يتحدث فى حكاياته عن أحوال الشرطة ورجالات البوليس ودورهم فى الشارع المصرى موقف الجمهور منهم، فذكر أنه ذات يوم خرج عيسى بن هشام وصاحبه أحمد باشا - الذى عاد من بين الأموات - يسيران طرقات المدينة التى تبدلت معالمها تمامًا فى عيون الحاضر الغائب - أى أحمد باشا - فإذا بأحد الحمَّارين يعترض طريقهما وينادى على الباشا برزالة وسخافة راغبًا فى ابتزازه متدعيًا أن الباشا قد أشار بأصبعه له راغبًا فى الركوب ومن ثم يستحق الحمّار أجره على انتظاره حتى إذا عدل عن ذلك، الأمر الذى أثار الباشا لاستخفافه بمقامه وتجاهله لقدره، فأخبره عيسى أن الذى يعنيه هو بعض الدراهم فهو لا يعرفك ولا يعرف مقامك، وكاد الباشا أن يضربه فنهاه عيسى وحذره من مغبة هذا العمل، أما الحمّار فقال له مستهزئًا: (من أنت؟ ومن تكون بلباسك هذا؟، نحن فى زمن الحرية لا فرق بين الصغير والكبير، ولا فرق بين الحمّار وبين الأمير)، فلم يعجب الباشا رد الحمّار فصفعه، فما كان على الحمّار إلا وقد ملأ الدنيا صراخًا «البوليس.. البوليس»، فظن الباشا أن البوليس هو أحد الأولياء الصالحين الجدد فأخبره عيسى أن البوليس هو جهاز الشرطة المكلف بالحفاظ على الأمن والنظام باسم الحكومة، فأجابه الباشا إذا فليأت البوليس ليأخذ هذا الحمّار إلى السجن، فراح عيسى ينبه الباشا أن فى ذهابه إلى الشرطة مخاطر لا يحمد عقباها. وبالصدفة كان أحد العساكر - بالقرب من الباشا والحمّار - واقفًا يجمع الإتاوات من الباعة المارة وأصحاب المحلات ومنهم بائع قصب، ويداعب فى الوقت نفسه طفلًا صغيرًا كانت تحمله أمه الحسناء على صدرها. فهرول إليه الحمّار وعيسى وشرح له الأول مسألته فقال له: (احكى، ان كل مواطن يحتاج إلى عسكرى حتى يستتب الأمن)، ثم قبض على الباشا وقاده إلى قسم الشرطة، وهناك كان المعاون نائمًا والصول النبطشى جالسًا يتناول طعامه، فدخل عليه الحمّار مستنجدًا، فزجره حتى ينتهى من طعامه وانتظر الجميع بالخارج، وكان الباشا متعبًا فراح يستند على إحدى الحوائط فسقط على أحد العساكر كان يجلس أرضًا لينظف البلاط، فصرخ الأخير ودخل إلى الصول وحكى إليه الحكاية بأكملها، وما كان على الصول إلا أن يحرر ضد الباشا محضرين: أحدهما مخالفة، والثانى جنحة دون أن يتحقق من الأمر وكأن التهم والديباجة سابقة التجهيز، وأضاف أنه شاهد الوقائع بنفسه، ثم ختم المحضرين وأمر أحد العساكر بأخذ أحمد باشا وإيداعه فى الحبس، بعد عمل إجراءات (الفيش والتشبيه). ونصح أحد العساكر عيسى (بأن صاحبه المتهم محتاج إلى ضمانة شيخ الحارة وهو واقف على الباب، وسوف ينتهى الأمر بعد إعطائه بعض الدراهم). أما باقى الحضور من أصحاب الشكايات والمتهمين فراح العساكر يضربونهم ليخرسوهم حتى لا توقظ أصواتهم العالية المعاون النائم. وإذا بأحد العساكر قد هرول إلى الحجرة المجاورة ليوقظ المعاون ليخبره بقدوم الخواجة مفتش الشرطة، فقام المعاون مسرعًا وارتدى ملابسه على عجل، فلم تعجب المفتش هيئته، وقرر أن يكتب فيه تقريرًا لمعاقبته. فظن الباشا أن هذا المفتش سوف ينصفه بعد سماعه لشكواه، ولكنه قد طرده من الحجرة وانصرف مسرعًا من القسم، ولم يلتفت إلى التفتيش والتنقيب لغير زى المعاون. وعادت الأمور إلى سابق عهدها من الهرج والمرج، وسمع عيسى المعاون يحمد الله على (أن هذا المفتش من الخواجات الذين لا يفقهون فى التفتيش إلا المظهر واللباس ولا تعنيه مصالح الناس ولا النظام ولا تطبيق القانون ولا حبس المتهمين بغير أساس، ولو كان هذا المفتش من العرب لاكتشف تلك المخالفات الجسام فى المحاضر والنظام)، ثم راح المعاون يأمر بحبس كل المتهمين فى القسم لمدة أربع وعشرين ساعة لعرضهم على النيابة.
وراح عيسى يكلم نفسه إنه أسف على ما حدث لصديقه (أحمد باشا)، قائلًا: (إن الباشا لا يدرك مضى الزمن ولا يدرى ما الحال، ولا يعلم بتغيير الأمور وما أحدثه الدهر بعد عهده وزوال دولته من تبدل الأحكام وانقلاب الدول.... وعقدت العزيمة على أنى لا أفارق صحبته بعد ذلك حتى أريه ما لم ير، وأسمعه ما لم يسمع، واشرح له ما خفى عليه وغمض من تاريخ العصر الحاضر، لاطلع على ما يكون من رأيه فيه عند مقابلته بالعصر الماضي، ولأعلم أى العهدين أجل قدرًا وأعظم نفعًا وما الفضل الذى يكون لأحدهم على الآخر).
وفى اليوم التالى ذهب عيسى إلى قسم الشرطة، فنظر إلى صاحبه وإذا به ما زال فى تعجبه واندهاشه، وذكر لعيسى أنه يعتقد أن كل ما هو فيه نتيجة وشاية قام بها أحد الحساد لولى النعم أى «محمد علي»، فأمر بما هو فيه، واعتقد الباشا أن الأمر سوف ينتهى بمقابلته له لتوضيح الأمر، وذلك بقوله: (قد كنت أظن أن ما وقع لى أمس كان لسخط ولى نعمتنا الداورى الأعظم (أى الحاكم) وغضبه على عبده بمكيدة كادها لى أعدائى أو فرية افتراها حسادي، فلذلك صبرت لحكم الضرورة، وامتثلت على تلك الصورة حتى أتمكن من التشرف بالأعتاب، والمثول بين يدى مالك الرقاب، فأزيل الشبهة وأنفى الريبة وأبرأ له مما رمانى به الساعى والواشي، وأجلى له حقيقة عبوديتى وإخلاصي). 
تلك كانت انتقادات المويلحى لأحوال البوليس وسلوك بعض أفراده ولولا تيقنى من صدق ملابسات الرواية وسند ومتن الحكاية وظننت أن المويلحى كتب ما كتب اليوم والساعة.
وأخيرًا أدعوك عزيزى القارئ تأمل ما بين الأقواس لتتلمس الألغاز وفهم الرسالة. 
وللحديث بقية مع المويلحى وانتقاداته الذكية