فى مثل هذه الأيام، وبالتحديد فى الساعة السابعة مساء يوم 21 يوليو 1960، والذى تزامن مع العيد الثامن لثورة يوليو، كانت مصر على موعد مع أول بث تليفزيونى، أسهم فى تغيير مسار الأحداث بالشرق الأوسط، وبسط سلطان القاهرة والشعب المصري، بكل تاريخه وثقافته على شعوب المنطقة.
«التليفزيون المصري».. فكرة انطلقت فى الخمسينيات من القرن الماضى، باقتراح من صلاح سالم، وزير الإرشاد القومى، وتم توقيع عقد بين الحكومة وهيئة الإذاعة الأمريكية، لتزويد مصر بشبكة تليفزيونية، وكان مقررًا إنشاء مبنى للإذاعة والتليفزيون فى عام 1956، لكن تم تأجيل المشروع 4 سنوات بسبب العدوان الثلاثى على مصر.. وفى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، انطلق البث ليغطى مدينة القاهرة، ومحيطها لمسافة 100 كيلومتر فى جميع الاتجاهات.. واستمر الإرسال لمدة 5 ساعات يوميا، وبدأ بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم أعلن الإعلامى «صلاح زكى»، أول مذيع تليفزيونى مصري، عن بداية البث التليفزيونى العربى رسميا من القاهرة، وتوالت بعد ذلك البرامج، وتطورت وتنوعت وأصبح التليفزيون قوة ناعمة ضخمة لمصر، امتدت لكل الشعوب الناطقة بالعربية، وكذلك الشعوب الأفريقية.
وأدرك الرئيس الراحل، أهمية إنشاء التليفزيون كوسيلة إعلامية، يمكنها أن تسهم مع الإذاعة فى زيادة الوعى الوطنى، وخصص 200 ألف جنيه، لبنائه، ثم 400 ألف أخرى ليكتمل هذا الصرح العملاق.. وانتشر صوت «عبدالناصر»، فى ربوع مصر وسوريا، عبر شاشات التليفزيون، خلال إذاعة خطابه من داخل مجلس الأمة، تلاه أوبريت «وطنى الأكبر»، وقدم المذيعان «همت مصطفى وسعد لبيب» النشرة الإخبارية، واختتم اليوم الأول، بتلاوة قرآنية للقارئ الشيخ مصطفى إسماعيل، تلاه موسيقى السلام الجمهورى.
وقبل ذلك، عرفت مصر الإرسال الإذاعى فى عشرينيات القرن الماضي، فى شكل محطات إذاعية أهلية، ذات طابع تجارى إعلانى فى الأساس، وكانت محدودة المجال، وفى 31 مايو 1934، انطلقت أول محطة إذاعية حكومية فى مصر.
وفى عام 1970، أصدر الرئيس الراحل أنور السادات، قرارا بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وبعد حرب أكتوبر 1973، تحول البث التليفزيونى إلى نظام الألوان.. وفى مارس 1985، تأسس قطاع الإنتاج، وأحدث طفرة كبيرة فى إنتاج الأعمال الدرامية المرئية من مسلسلات وأفلام روائية وتسجيلية ورسوم متحركة، وظل لسنوات طويلة مسيطرا على الإنتاج الدرامى والفنى فى مصر والعالم العربى والأفريقي.. وفى عام 1988، بدأ التوسع فى إنشاء قنوات محلية، تخدم المحافظات مثل القناة الثالثة للقاهرة الكبرى، و«الرابعة» لمدن القناة الثلاث، و«الخامسة» للإسكندرية، و«السادسة» للدلتا، و«السابعة» لشمال الصعيد، والقناة «الثامنة» لجنوب الصعيد.. وأضيفت القناة الفضائية «الأولى»، وهى أول قناة فضائية عربية حكومية، تم بث إرسالها 1990، وفى عام 1993 أنشئت قنوات قطاع النيل المتخصصة «أخبار، رياضة، الثقافة، الطفل، المنوعات والتعليم».
ومثل التليفزيون، مع قطاعات السينما والمسرح والتقدم العلمى ومنظومة القيم الشعبية والنظام السياسى، دور القوة الناعمة لمصر، التى سيطرت بها على قلوب الملايين من البشر ونشر اللهجات والعادات والتقاليد والفنون المصرية بالشرق الأوسط.. ويقصد هنا بمفهوم القوة، أنها فرض للإرادة على الآخر، سواء تم ذلك من خلال شخص أو جماعة أو دولة، باستخدام وسائل وأدوات معينة... ويعرف علم الاستراتيجية، قوة الدولة، بأنها فاعلية الدولة ووزنها فى الساحة الخارجية، وقدرتها على إنفاذ إرادتها، وحماية مصالحها، وتحقيق أهدافها، من خلال توظيف مصادر هذه القوة.. وبتلك الأدوات ظلت القاهرة صاحبة القوة الناعمة المهيمنة على المستوى الإقليمى لمدة تزيد على ثلاثة عقود، وأسهم فى ذلك الكتاب والمثقفون والمطربون والأكاديميون والخبراء المصريون، واستطاع التليفزيون أن يوصل صوت مصر ورسالتها إلى العالم أجمع.
ويحتاج التليفزيون، للتطوير دائما لكى يحافظ على ريادته بالمنطقة، وبخاصة مع انتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعى المختلفة، ويجب أن تشمل خطة التطوير إدارة الأصول واستثمارها وسداد الديون وتغيير شكل الشاشة، وتدريب العاملين عبر معهد الإذاعة والتليفزيون، والإصلاح المالي، والتطوير المؤسسي، وتطوير المحتوى والجودة، من أجل استعادة ماضيه الحافل بالإنجازات والريادة واسترداد الطيور المهاجرة منه للقنوات الخاصة.. وهناك خطوات ملموسة لتطوير «ماسبيرو» لا يمكن إنكارها، ويبذل مسئولو الهيئة الوطنية للإعلام، برئاسة حسين زين، جهودا كبيرة فى التطوير، من خلال حزمة برامجية جديدة.. وبدا التليفزيون متميزا خلال بطولة الأمم الأفريقية، حيث أسهم فى تركز الأنظار العالمية على مصر وشعبها خلال البطولة.. لكن ورغم ذلك يبقى الطريق طويلا لعودة أمجاد التليفزيون المصرى السابقة.