يتابع دكتور أحمد حماد أستاذ الإسرائيليات بجامعة عين شمس فى كتاب «الصهيونية وما بعدها.. قراءة فى الأنساق المضمرة» والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠١٨ بقوله: يمكن أن نلحظ بوضوح النسق المضمر لخلق إنسان جديد فى الفكر الروسى الذى أوجد مفهوم (اليهودى الجديد) فى الصهيونية. فاليهودى الجديد، الذى سعت الصهيونية إلى إيجاده، كان استنساخًا واضحًا لمفهوم الأوروبى الجديد؛ وبالتالى فإن هذه الفكرة لم تكن تسعى إلى خلق شخصية يهودية جديدة بمواصفات متفردة، كما أوهمتنا الصهيونية، بقدر ما سعت إلى إعادة رسم الشخصية الأوروبية لكن فى صورة يهودية، لأن اليهود – فى المضمر – يشعرون بأوربيتهم أكثر من شعورهم بيهوديتهم.
كما ورثت الصهيونية أيضًا من الثقافات الروسية العلاقة الخاصة بالأديب والشاعر، الذى اعتبر «نبيًا» (وهو المفهوم الذى أخذ معنى الزعيم الروحى الذى يعانى ويضحى بنفسه من أجل المجموع ) ذى الصلاحية الروحية. وكان من المقرر أن يكون للأيديولوجية السياسية القومية أيضًا جانب روحى يصاغ كنبوءة نبى، ويعكس الضمير المقدس والروح الأخلاقية لليهود، وكان هذا الجانب محل اهتمام الأدباء والشعراء.
صحيح أن مفهوم النبوة مسألة يهودية، لكن حينما كتب أحد هاعام صاحب صهيونية (المركز الروحى) عن (الكاهن والنبى)، وحينما اعتبر الناقد الأدبى يوسف كلاوزنر شعر بياليك استمرارًا للنبوءة المقرائية، استخدما هذا المصطلح بمفهومه الروسى؛ الذى يقدم تعبيرًا أدبيًا عن المضمون الروحى للحركة الشعبية السياسية، وعلى خلفية نظريات الخلاص المشيحانى التى أكدت البُعد الداخلى والشخصى للخلاص لم يعتبر الأديب نفسه مجرد نبى، وإنما اعتبر أيضًا مخلصًا أو مسيحًيا ؛ من المفترض أن تنشط أعماله عمليات الإحياء الروحى فى القارئ وفى المجموع اليهودى، وهو نفسه يضحى بحياته من أجل الهدف المقدس لخلاص هذا المجموع، وهكذا لم ينظر فى روسيا فقط إلى دوستويفسكى وفلاديمير سولوفيوف، وإنما نظر أيضًا إلى نيتشه ووالت فيتمان. وشارك فى هذه النظرة، التى لم تفرق بين الأديب والزعيم السياسى والنبى المساعد والمخلص والضحية، أدباء ونقاد يهود درسوا فى العصر الفضى الروسى – أمثال: بياربرج وبياليك وبرينر – وليس أدباء ذوى خلفية غربية أكثر ( برديشفيسكى وشرنحوفيسكى ).
عبر عن هذه النظرة جيدًا فى أشعار بياليك، الذى توجهه يوسف كلاوزنر بلقب (الشاعر القومى) بالمفهوم الروسى للمصطلح، النبى والمخلص لروح الشعب حتى النقاد اليهود وغير اليهود الذين كتبوا عن بياليك بالروسية تبنوا هذه الرؤية – على سبيل المثال.. فى قصيدته (لم أحظ بالنور من العدم) (١٩٠٢) يصف بياليك العمل الأدبى بأنه (نور) بيضاء من (الشرارة ) التى فى قلب الشاعر حينما تنفجر من ضربة (مطرقة معاناتى الكبيرة) طارت هذه الشرارة من القلب إلى عين الشاعر (أى أنها تتيح له رؤية حقيقية نبوية)، هى بمثابة – إله الشعر، ومنه إلى قلب القراء الذى سيضاء بنورها.
ونجد أن بياليك يستخدم فى قصائد أخرى رمز الضوء فى وصف الحركة الصهيونية (للمتطوعين فى الشعب، على سبيل المثال) باعتباره عملية خلاص مشيحانى صوفى لا علاقة لها بالاعتراف بالصهيونية. وفى أعمال أخرى (زوهر، والبريكه، والنبت الشيطانى) يصف الطفولة كعالم قداسة عليا، تشع أحيانًا من الذاكرة وتضفى واقعا خلاصيا. هذه الموتيفات الصوفية المشيحانية، التى كانت غريبة تمامًا على أدباء الهسكالاة، لم تصل إلى شعر بياليك بإلهام من صهيونية أحد هاعام الروحية، وإنما بتأثير من الفكر والأدب الروسى. وحدث ارتباط حاييم نحمان بياليك، خريج يشيفا فولوجين بالمصادر الصوفية اليهودية، بعد عشر سنوات من الإنتاج، فى السنوات الأولى من القرن العشرين، حينما كانت الحركة الرمزية، باعتبارها حركة أدبية ودينية جديدة، فى قمتها حيث اتسمت هذه الحركة بالإيمان بالخلاص المشيحانى واتجاهات صوفية، وتسللت هذه الاتجاهات إلى الصهيونية خصوصًا من خلال أدباء ومفكرين عاشوا فى بيئة أدبية غير مرتبطة بتنفيذ الوصايا الدينية اليهودية.
كانت معارضة الوضعية سمة للثقافة الأوروبية فى نهاية القرن، خصوصًا فى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، وهى بالتأكيد الدول التى تطلع إليها مثقفو روسيا طوال القرن التاسع عشر، وخصوصًا فى فترة «العصر الفضى»، لكن الابتعاد عن الوضعية فى روسيا، التى تحمس مثقفوها الفرانكفونيون بصفة خاصة لنظرية أوجست كونت، كان صعبًا جدًا، بل وحتى مريرًا، أكثر من الغرب وحينما جاءت تشاؤمية نهاية القرن التاسع عشر من غرب أوروبا إلى روسيا حظيت بدفعة أدت إلى تركيز خاص على البُعد الاجتماعى والتاريخى القومى. وبدأت أوصاف التعفن، والمرض و «الوهن» تتركز فى الأدب الفرنسى حول أوضاع الفرد مع استخدام التاريخ الرومانى كمجاز، وبدأت تظهر فى الأدب الروسى فى نهاية القرن التاسع عشر فى أوصاف وضع الطائفية، والمجتمع والشعب الروسى فى الحاضر.
وللحديث بقية..