الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

«الكُتَّاب»| مدرسة العلوم والأخلاق.. من المسجد للمندرة

سيدنا.. من هنا يبدأ التعليم واستعادة الريادة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

** أهم حلقة فى التعليم ولا يرتبط بالروتين المدرسى ويغرس أساسيات العلوم فى العقول

** ضرورة عمل الكُتاب جنبًا إلى جنب مع المدارس الابتدائية.. مع إضافة اللمسة العصرية على وسائل التعليم

** لعب الكتاب دورًا كبيرًا فى إثراء الحياة الثقافية المصرية.. والإنشاد الدينى أبرز المظاهر

** " معلم الصبيان " لم تكن تؤخذ بشهادته أمام القضاء

** الحجاج بن يوسف الثقفى كان معلمًا للأطفال.. وأصبح أهم أعمدة الحكم في الدولة الأموية

بين الحقول وعلى ضفاف الترع فى ريف مصر العظيم، ما زال الكُتَّاب يقف شامخا مقاوما لكل عوامل التهميش والإهمال، التى طالته خلال العقود الأخيرة، مستمدا بقاءه من تاريخ عريق أخرج فيه أجيالا من العظماء والعباقرة.


عندما تدخل إلى الكُتاب تشعر بأنك عدت سنوات طويلة إلى الوراء، وتتداعى ذكريات تنقلك من الواقع الحالى، الذى يعيش فيه الريف حالة غير مسبوقة من الحداثة، إلى أيام كان «سيدنا»، هو المسيطر فيها على حياة أبناء القرى الريفية، حتى يبلغ كل منهم أشده وربما بعد ذلك أيضا.

فى طريقنا إلى قضاء يوم مع شيوخ الكتاتيب، الذين يطلق عليهم لقب «سيدنا»، فى إشارة إلى ما يتمتعون به من مكانة عالية فى النفوس، كان ما يشغل أذهاننا هو تلك الصورة النمطية للكتاب؛ حيث الشيخ الذى يمسك العصا فى يده، ويضع «الفلكة» بجواره، كوسيلة عقابية لبسط النظام والهيمنة على شقاوة التلاميذ، وضمان انتباههم أثناء الدرس، وزوجته التى تكلف تلاميذ سيدنا بمهام منزلية، فى وقت الفراغ، فهذا يغسل لها الحلل، وذاك يكنس الدار، والثالث يجمع الحطب، والرابع يساعدها فى الطبخ، ولما لا يحدث ذلك، والتلميذ يقضى يومه من الصباح إلى المساء بين يدى سيدنا.

وخلال سيرنا على الطرق التى كانت يوما ما ترابية لا تصلح لسير السيارات، تذكرنا كيف صنع الكاتب الكبير أنيس منصور، صورة «سيدنا»، ذلك الرجل الغليظ، الذى لا يتردد عن نهر تلاميذه وضربهم بقسوة عند أول بادرة خطأ، معتقدا أن هذا هو السبيل الوحيد لضمان الأدب وحسن الاستماع للدروس.

هذه الصورة التى أكدها أيضا عميد الأدب العربى فى كتابه الرائع «الأيام»، بقدر ما كانت مخيفة فى عقول التلاميذ، كانت أيضا تعبر عن واقع عاشه الكثير من عظماء العلم والثقافة والفن، أمثال: عالم الذرة الكبير مصطفى مشرفة، والدكتور طه حسين، وعباس العقاد، وأم كلثوم، وعبدالرحمن الأبنودى، وغيرهم كثيرين ممن لا يتسع المجال لذكرهم كافة.

وفى الواقع، وطبقا لروايات الكثيرين ممن تعلموا فى الكُتّاب، فإن «سيدنا» لم يكن فقط ذلك الشيخ القاسي، الذى لا يعرف إلا الضرب، وإنما كان أيضا المعلم الأول، الذى تتفتح على صوته الشجى آذان التلاميذ، فتستقبل آيات الله، وكذلك أبجديات القراءة والحساب، حيث كان الجميع يتعلمون أصول القراءة والكتابة، وآداب التعامل، فى ظل منظومة شديدة الصرامة، يقودها ذلك الرجل المعمم الذى يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ويستمد هيبته فى الأساس، من آياته التى يتلوها على مسامع تلاميذه حتى يتقن كل منهم قراءتها غيبًا.


فى «كتاب سيدنا» ازدهر التعليم الأساسي، حتى نهاية ثمانينيات القرن العشرين، حين بدأت مرحلة الاندثار، حتى لم يبق لنا من الكتاب حاليا، سوى ذكريات مطبوعة فى أذهان أجيال كاملة، تعلمت على يدى «سيدنا».

قررنا أن نلقى الضوء على يوم من حياة «سيدنا» شيخ الكتاب، ليس فقط لإطلاع الأجيال الجديدة، على هذه المهنة العريقة، وإنما لنكشف من خلال رحلتنا كيف أصبح الكتاب، وكيف يمكن أن نستعيده لكى يعيننا على بناء شخصية النشء، وتخريج دفعات جديدة من العظماء.

ولأن الدولة المصرية لا تتوقف عن الغوص فى ملف التعليم، لإصلاح ما أفسدته عقود من الإهمال؛ فإنه يبدو من الضرورى أن نعترف بأن التطوير الحقيقى لمنظومة التعليم، لا سيما فى المرحلة الأساسية، لن تكون إلا من حيث «كتاب سيدنا»، خاصة أن الكتاب لم يكن مدرسة لتلقين العلم فقط، وإنما هو جامعة لغرس الأخلاقيات السامية فى وجدان النشء، فيبقى محتفظا بها إلى نهاية العمر.


«سيدنا».. صورة هزلية وتاريخ عريق

عندما تطرق آذاننا كلمة «الكُتاب»، تتداعى فى عقولنا الكثير والكثير من المعاني، والذكريات، فهو المكان الذى أخرج لنا طه حسين، وعباس العقاد، ومصطفى مشرفة، وعبدالرحمن الأبنودي، وأم كلثوم، والشيخ الشعراوي.

وخلال الطريق إلى قضاء يوم كامل فى كتاتيب محافظة الشرقية، حيث الريف الذى ما زال يحتفظ بنقائه ورونقه، جالت فى أذهاننا تلك الصورة النمطية للكُتاب وشيوخه، كما رسمها الراحل الكبير أنيس منصور، فى كتابه «عاشوا فى حياتي»، الذى سرد فيه تفاصيل كثيرة رسمت ملامح شخصية «سيدنا»، الذى يتولى تحفيظ الأطفال القرآن الكريم.

وكذلك زوجته التى تستغل نفوذ زوجها على تلاميذه، وتأمرهم بمساعدتها فى «شغل البيت»، فأحدهم يغسل الأواني، وآخر يكنس صحن الدار، وثالث يجمع الحطب لإشعال الفرن الفلاحى العتيق، بل إنها تكلف بعض الفتيات الصغيرات بتقطيف الملوخية، وتنقية الأرز.

ولم نكد نخرج من بحر الأفكار الذى تداعى عندما تذكرنا ما وصف به أنيس منصور الكتاب وشيخه، داهمتنا صورة أخرى لـ«سيدنا»، لكن هذه المرة رسمها عميد الأدب العربي، طه حسين، الذى أبدع كتاب «الأيام»، عن واقع حياته منذ الصغر، وفيها رأينا «سيدنا» هو ذلك الشيخ الضرير، البدين، صاحب الصوت الأجش، الذى لا يتورع عن الكذب لتحقيق أهداف خاصة، والفوز بالمزيد من المال النقدي، أو العينى من بيض وفطائر، ودجاج، وبط، وإوز وغيرها من خيرات البيت الريفى العريق.


«سيدنا» أيضا هو ذلك المتعجرف، غليظ القلب، سليط اللسان، كما صورته رواية «سقوط النور»، لمحمد إبراهيم طه، وهو الشيخ «كفتة»، المكروه المذموم من تلاميذه لاستخدامه المفرط للفلكة والخيزرانة، برواية «السقا مات»، التى كتبها المبدع الكبير يوسف السباعي.

وقبل لحظات من الوصول إلى هدفنا، سيطرت الصورة الفكاهية لـ«سيدنا»، كما رسمتها بعض الروايات الأخرى، حيث بدا شرها، لديه عاهة تثير ضحك كل من يراه.

ورغم كل هذا السيل من الذكريات السلبية عن «سيدنا»، فإنه وكُتّابه لعبا دورا تاريخيا، فى حفظ الهوية العربية للدولة المصرية، التى كان من المفترض أن تتحول إلى مسخ مشوه من الثقافة البريطانية، عقب احتلال دام أكثر من سبعين عاما.

هذه العقود السبع كانت كفيلة بتحويل مصر من بلد عربي، إلى نسخة ترتبط بالسيد البريطانى إلى الأبد، لكن الكتاب «وسيدنا»، وقفا بالمرصاد، واستطاعت هذه المنظومة البسيطة، أن تتحول إلى درع يحفظ لمصر عروبتها وارتباطها بالقرآن الكريم.


كُتّاب الشيخ علوان.. «أبو عصاية» من الجنة

فى محافظة الشرقية، ترتسم بوضوح ملامح الكُتاب التقليدية، الذى تدور أحداثه حول مركز وحيد هو «سيدنا»، «أبو عصاية من الجنة»، والذى قاد أجيالًا لصناعة ماض عريق، يؤكد أن عودته بصورته التقليدية، بات أمرًا ضروريًا للمستقبل.

فى الشرقية لا تجد الكثير من الكتاتيب، لكن بينها ما يتمتع بشهرة واسعة، ومنها كُتاب الشيخ علوان، وكُتاب الشيخ مكي، اللذان قضينا فيهما يوما كاملا، نرصد علاقة «سيدنا» وزوجته، بالتلاميذ وأولياء أمورهم، وما طرأ عليها من تطور، فى ظل اقتحام بعض الأدوات الحديثة لحياتهم، مثل الموبايل، والإنترنت.

الشيخ محمد علوان، ذو الأربعين عاما، واحد من حفظة القرآن، الذين يتمتعون بشعبية كبيرة لدى الأهالى فى الشرقية، نظرا لتمكنه من أداء عمله، واهتمامه بتعليم التلاميذ.

يبدأ الشيخ علوان يومه مبكرا، فيقضى احتياجاته حتى يتفرغ لطلابه، وعندما دخلنا عليه لاحظنا أن كل من يدخل على «سيدنا»، لا يكتفى بمصافحته، وإنما يقبّل يده أيضا.

وجالسا على مقعد مرتفع، فيما يجلس التلاميذ أمامه على الحصير، تحيطهم الطيور المنزلية، ولا يخلو الأمر من قطة وكلب أيضا، يبدأ الشيخ علوان عمله.


وبينما تتأرجح فى يديه عصا طويلة، يراها هو كما يقول «من الجنة»، لأن هيبتها تساعدهم على حفظ القرآن، ينادى الشيخ علوان عليهم واحدا تلو الآخر، ونسمعه يسأل أحدهم: «أنت ابن مين؟»، هذا السؤال الذى يبدو من خلال رد الطفل، معتادا، يسأله الشيخ لكل تلميذ جديد فى أول يوم ينضم فيه للمجموعة.

«بسم الله الرحمن الرحيم.. توكلنا على الله.. أنا أقول.. وأنتم ترددوا ورايا.. بسم الله الرحمن الرحيم.. ألف لاااام.. مييييم.. ذلك الكتاب لا ريب فيه»، ويقرأ ما تيسر من بدايات سورة البقرة.

وتحت تهديد العصا، والفلكة المعلقة على نافذة الغرفة، يفاجئ الشيخ علوان أحد التلاميذ قائلا: «قول يا واد سمعنى صوتك.. قول يا واد.. دى اسمها سورة البقرة».


وفجأة يتكرر الخطأ من أحد التلاميذ، ويقرر الشيخ علوان، معاقبته حتى يسترد تركيزه، ويتم إحضار الفلكة، فيما يتولى اثنان من التلاميذ، الإمساك بقدمى زميلهما المعاقب، ووضعها داخل حبل الفلكة، الذى يتم لفه على القدمين، ورفعهما عن الأرض، ويتولى الشيخ علوان ضرب التلميذ بعصاه على قدميه، مرة والثانية والثالثة، والرابعة والخامسة، وبعدها يعود الهدوء إلى المكان، ولا تتبقى إلا نظرات زائغة فى عيون التلاميذ، تتساءل عمن يكون التالي؟!

«عصاية سيدنا من الجنة ومبتأذيش»، هذا هو رد سيدنا، على «العلقة» التى نالها التلميذ، معتبرين أن سيدنا يعاقبهم، لينتبهوا ولا يؤذيهم، لكنهم أيضا لا ينفون أنهم يخافون من هذا الموقف بشدة.

ويقول الشيخ محمد علوان، إنه ورث الكُتاب عن والده، مؤكدا أنه سيورثه لأبنائه، ويوصيهم بأن يورثوه للأحفاد أيضا، مشيرا إلى أن الكتاب هو أهم حلقة فى التعليم، لأنه لا يرتبط بالروتين المدرسي، ويقبل الأطفال فى سن مبكرة، مما يسهل من تشكيل سلوكهم، ويسهم فى غرس أساسيات العلوم فى العقول، فلا تفارقها أبدا.


روشتة إنقاذ

الشيخ محمد علوان، لم يشأ أن يتركنا نذهب، دون أن يطلعنا على رؤيته لروشتة إنقاذ الكتاب، من واقع خبرته، إذ يقول: «الأمر بحاجة إلى إيجاد ما يمكن وصفه بسيدنا المودرن، وذلك عبر تحديث الكتاتيب فى شتى أنحاء القرى والنجوع والمدن المصرية، وتغذيتها بمناهج تعيد ربط النشء بدينه وهويته ولغته العربية السليمة، باعتبارها من ضمانات صناعة شاب قادر على الفهم والاستيعاب لما يدور حوله».

وأضاف: «الكتاب يجب أن يكون حرا، لا يخضع سوى لإشراف الأزهر على ما يقدمه من علوم دينية، كما ينبغى أن يخاطب الأطفال تبعا لأعمارهم، خاصة فى ظل فشل قدرة الحضانات على أداء هذا الدور، لاعتمادها على مناهج مصمتة، لا تراعى عقول الأطفال، ولا احتياجاتهم فى هذه الفترة من أعمارهم».

وطالب علوان بأن يعمل الكتاب جنبا إلى جنب مع المدارس الابتدائية، بحيث يتكاملان فى تربية النشء منذ سن الخامسة، وحتى إتمام التعليم الأساسي، مع إضافة اللمسة العصرية على وسائل التعليم، لضمان انتباه وحسن إدراك الأطفال.


كتاب الشيخ مكى وزوجته

يمتلك الشيخ على مكى كتابا، لا يختلف كثيرا عن ذلك الذى زرناه لدى الشيخ محمد علوان، لكن مفردات اليوم تختلف، فكتاب الشيخ مكى ليس سوى حصيرة بلاستيكية، تغطى أرضية حجرة مبنية من الطين، وترتفع حوائطها لما يناهز المرتين، حاملة سقفا خشبيا، خاليا إلا من مصباح ومروحتين. ويتمتع الشيخ مكى بشهرة واسعة، لأنه يمتلك إجازة الحفظة الجدد، ومنحهم سند حفظ القرآن كاملا. ويعطى الشيخ مكى لزوجته مساحة أكبر فى مساعدته، فهى التى تعمل على تحفيظ التلاميذ الحروف الأبجدية.

ورغم أنها بلغت الـ٦٥ من العمر، فإن الحاجة أم أحمد، ذات الوجه البشوش، لا تكل عن مساندة زوجها فى تعليم الأطفال، ليس لأن هذا واجبها تجاه زوجها فقط، إنما أيضا لأنها تريد أن تأخذ الثواب من الله. وتقول أم أحمد، التى تحدثنا إليها فيما كانت تعمل على «تنقية الأرز»، أمام الفرن الفلاحي: «بخاف على العيال من شدة سيدنا، وأوقات كنت آخذ الضربة بدلا منهم، كما أننى ربيت أبنائى مع تلاميذ الكتاب».


أما الشيخ مكى نفسه فيقول: «قديما كان المقابل ١٠ قروش، أو حصة محددة من محصول والد الطفل، أو ثمرات من زراعته، وربما دجاجة أو بعض البيض». وأضاف: «الآن أحصل على مبلغ زهيد أيضا، لقاء تعليم التلاميذ، لكنه لا ينظر إلى الأجر قدر نظره إلى أهمية دوره، فى ترسيخ القيم السليمة، وملء عقول النشء بآيات القرآن الكريم.

وأشار الشيخ مكى إلى أنه يقدم الإجازة لحفظ القرآن الكريم وتلاوته، ويتجاوز عدد الطلاب ١٠٠ طالب، لافتا إلى أنه يشعر بفرحة غامرة كلما أجاز حفظ طالب جديد.


عبدالغنى الغريب: تراجع دور الكتاتيب وراء الإرهاب

قال الدكتور عبدالغنى الغريب، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن تراجع دور الكتاتيب، خلال الفترة الحالية، يعد أحد أسباب انتشار الإرهاب، فى ظل تنشئة بعض الأطفال، على أفكار متطرفة، يزرعها فيهم أنصار التيار المتشدد، والتى لو كان الكتاب على قوته، ما انتشرت ولا وجدت رواجا.

وحمل الغريب الأزهر ووزارة الأوقاف، مسئولية تراجع دور الكتاتيب لعدم الاهتمام بها، وبتطوير فكرتها والقائمين عليها، مضيفا: «الكثير من الأسر تتمنى عودة الكتاتيب، لكن المسئولين عنها لا يلقون لها بالا، رغم أهميتها القصوى فى تربية النشء على صحيح الدين». ودعا إلى تخصيص ميزانية مناسبة للكتاتيب، وإعادة تفعيلها بشكل يمكنها من استرداد ريادتها فى تعليم الأطفال.


إنتاج «سيدنا» بثوب عصرى

أكد الشيخ جابر طايع، وكيل أول وزارة الأوقاف، ورئيس قطاع المساجد، أن الوزارة تمتلك ١٠٠٠ كُتاب ملحق بالمساجد، مشيرا إلى أنه يجرى حاليا تطوير هذه الكتاتيب، لكى تتناسب مع روح العصر، وطبيعة الزمن، والتغيرات التى حصلت فى الأجيال الحالية.

وأشار إلى أن الوزارة لديها ٥٣ ألف إمام، قادرون جميعا على ممارسة دور المحفظ، ويتم قبول الراغبين منهم فى تحفيظ القرآن، وإجراء مقابلة شخصية لهم، للتأكد من قدرته على أداء هذه المهمة الجليلة. مشددا على أن فكرة الكتاب موجودة فعلا، ولم تندثر أو تهملها الدولة، مضيفا: «ويبدو هذا واضحا فى الصيف، حيث يزداد الإقبال على الكتاب، بسبب تفرغ الأبناء فى الإجازة الصيفية». وأشار إلى أن تحفيظ القرآن له منهج علمي، يبدأ من خلال قياس حجم ومعرفة الطفل بالحروف اللغوية، ومدى إجادته للتشكيل، وهو ما يستدعى أن يكون المحفظ ملما بقواعد اللغة العربية، كما أن الكتاب يجب أن يحصل على ترخيص، ليكون قادرا على منح الإجازة للحافظين.

ولفت إلى أن معلم الكُتّاب له دور مهم فى حياة تلاميذه، لذا يجب أن يكون من أهل العلم والصلاح مضيفا: «يجرى اختيار معلمى الكُتاب من أهل العلم والصلاح، من الحاصلين على مستوى تعليمى يشهد لهم بالقدرة على التعليم».


خطة الإحياء

أشار «طايع» إلى أن وزارة الأوقاف، قررت فتح هذا الملف، عن طريق إعداد المحفظين، كاشفا عن تدشين معهد لإعداد المحفظين، يعمل على إخراج محفظ قادر على مواجهة العشوائية وكتاتيب بير السلم، التى كانت تعمل على نشر التطرف وغرس مفاهيم خاطئة فى عقول النشء، استغلالا لجهل بعض المحفظين. ولفت «طايع» إلى أن وزارة الأوقاف تمتلك حاليا ٧٢ مركزا لإعداد محفظى القرآن الكريم بالمساجد الكبرى، تدرس لهم القرآن الكريم وعلومه، وذلك على أيدى العلماء والقراء المتخصصين.


«سيدنا» بثوب عصرى

أوضح أن الوزارة ستمنح خريجى هذه المعاهد شهادة «محفظ معتمد»، لمن يجتاز السنة التمهيدية، والسنة التخصصية، مشيرا إلى أن هذه الإجراءات تأتى فى إطار، إنتاج «سيدنا» بثوب عصري. وأشار إلى أن خطة إحياء الكتاب، تستهدف أن يكون متناسبا فى العدد مع الكثافة السكانية، بحيث تصل خدماته إلى الجميع.


دراسة: الكتاب يعيد القوة للتعليم الأساسى

أكدت دراسة أجراها الدكتور عبدالباسط متولي، أستاذ الصحة النفسية، بكلية التربية فى جامعة الزقازيق، أن الكتاب يمكنه أن يعيد القوة للتعليم الأساسى فى مصر، لأنه يساعد على تقويم النطق وتقوية مخارج الألفاظ، ومد الطفل بالقدرة على الاستيعاب فى تلك المرحلة العمرية التى يكون التعليم فيها كالنقش على الحجر.

ويقول متولى فى دراسته، التى تناولت أثر تعلم القرآن الكريم والفقه، على مستوى النمو اللغوى لدى الأطفال: «للبيئة الثقافية للفرد دور أساسى فى خلق جو من التفاعل اللغوى والإيجابى من خلال إتاحة الفرص المناسبة لتعلم اللغة وممارستها على النحو الذى يناسب مستوى نضج الطفل ويساعده على النمو العقلى والانفعالي». وأضاف، أن ذلك المناخ الثقافى الفعال يتشكل من قدرة الأسرة على التفاعل اللغوى المثمر وتوجيه الطفل إلى هذا التفاعل وإلحاقه بجمعيات تحفيظ القرآن «الكتاتيب»، التى تعد الطفل ليكون ذاكرًا لأكبر تراث لغوي، ومحافظًا على ذاته من خلال ذلك التذكر الواعي. ولفت إلى أن الكُتاب قادر على تحقيق التوازن الذى يحتاجه الطفل لحمايته من براثن العنف والانحلال الأخلاقي، والضياع الفكرى والتطرف والإرهاب.

ويؤكد الدكتور متولى أن قدرة الطفل على الحفظ فى مرحلة الطفولة المبكرة تكون عالية جدا، وهو ما يتم استغلاله فى الكتاب، مشيرا إلى أن حفظ القرآن الكريم يقوّم لسان الطفل، ويقوى مخارج ألفاظه، قبل سن ست سنوات.


الكتاب يخرج العظماء

يتفق الجميع على أن الكُتاب، كان سببا فى خروج الكثير من العظماء، فى مختلف المجالات، وممن خاضوا تجربة التعلم فى الكتاب الدكتور مختار مرزوق، العميد السابق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع أسيوط، إن نشأته فى الكتاب كانت سببا فى أن يجد سهولة بباقى مراحل التعليم، لأنه بدأ تعلم الاستيعاب والفهم مبكرا. وأشار إلى أن نشأته فى قرية ريفية، أسهم فى أن يجد اهتماما بتعليمه فى الكتاب، حيث حفظ القرآن الكريم، وتعلم أصول نطق اللغة العربية.

من جانبه، قال الدكتور عبدالحكيم صيام، المدرس فى أحد المعاهد الأزهرية، إنه أصر على العمل فى هذه المهنة، رغم حصوله على الدكتوراه، لحبه لها، مشيرا إلى أن هذا الحب تولد منذ صغره عندما كان يذهب إلى الكتاب. وأضاف، أن أسرته كانت حريصة على إرساله رفقة أشقائه للتعلم فى الكتاب، مضيفا: «كنا نكتب على اللوح الخشي، لذا تميزنا بالخط الجميل، عند دخولنا المدرسة». ولفت إلى أن الذهاب للكتاب، كان أمرا مقدسا لدى عائلته، لذا حرص على ذهاب أبنائه للكتاب أيضا، فتعلموا على يد «سيدنا»، ليكملوا مراحل دراستهم بنجاح.


تاريخ الكتاب فى الدول الإسلامية

ظهر الكتاب كوسيلة للتعليم منذ أكثر من ١٥٠٠ عام، بحسب الروايات التاريخية، التى اعتبرته أحد أقدم وسائل تعليم الأطفال، وظهر عربيا فى مكة المكرمة، قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم.

ويروى المؤرخون أن سفيان بن أمية بن عبد شمس، وأبى قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، هما أول من التحقا بالكتاب فى مكة، وكان يعلمهما بشر بن عبدالملك.

أما الكتاب فى الدولة الإسلامية، فظهر للمرة الأولى بالمدينة المنورة، على يد النبى صلى الله عليه وسلم، حين أنشأه لتعليم أطفال المسلمين ورجالهم ونسائهم القراءة والكتابة، وكان يديرها النصارى، وبعد غزوة بدر تولاها المسلمون، ممن تعلموا على أيدى أسرى بدر.

وفى العصر الأموي، ظهرت الكتاتيب فى شكلها المعروف، وكانت مجاورة للمساجد، واستهدفت تمكين أبناء الفقراء، ممن لا يستطيعون إحضار المعلمين لأبنائهم فى المنازل، حيث كانت هذه عادة الأغنياء وحدهم.


الكُتّاب فى مصر

كالعادة، فإن معظم الأمور الجيدة، تبدأ من عند الفراعنة، لذا فإن الكُتّاب بدأ فى مصر، خلال هذا العهد التليد، حيث وجدت كتاتيب ملحقة بالمعابد الفرعونية، وعرفت باسم «مدارس المعبد»، وكانت تمنح شهادة للدارس تسمى «كاتب تلقى المحبرة».


أزمة الدولة العثمانية

شهد التعليم تحت حكم الدولة العثمانية، تدهورا كبيرا، وبالطبع عاش الكُتاب أزمة كبرى فى تلك الفترة، وعلى مدار قرن ونصف حكم فيها الأتراك الدول العربية، كادت الكتاتيب أن تندثر تماما، اللهم إلا القليل منها فى مصر، فانخفض عددها من الآلاف فى عهد المماليك، لبضع عشرات فقط.


لائحة رجب

منذ النصف الأخير للقرن الـ١٩، ظهر مشروع لنشر الكتاتيب، فى مصر أطلق عليه «لائحة رجب»، وكان الطفل يبقى للتعلم فى الكُتاب لمدة تصل إلى نحو ستة أعوام، واستهدف تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وتحفيظهم القرآن الكريم. ولكن لم تجد الكتاتيب أو حتى المدارس الدينية، أى اهتمام من العثمانيين، فكانت تضطر لإغلاق أبوابها بعد وفاة مؤسسيها نتيجة عجزها عن الإنفاق، وأغلب معلميها كانت قدراتهم محدودة، ولم يحصلوا على تعليم جيد، ما ساعد على تفشى الأمية فى عموم الشعوب العربية، وكان هذا الإهمال العثمانى مقصودا، حتى يمكنهم استبدال اللغة التركية بالعربية، وبالطبع لم يكن هذا ممكنا دون إغلاق الكُتاب. والأمر تكرر فى الشام، الذى عاش سنوات طويلة دون كتاب، أو حتى مدرسة دينية، أو ابتدائية.


الفن والأدب

المتتبع لدور الكتاب فى الحياة الثقافية بمصر، سيدرك بسهولة، أن هذه الوسيلة التعليمية، كان لها دور تاريخى مؤثر على الحياة الثقافية بمصر، ودخلت الكتاتيب إلى الدول الإسلامية، خلال عهد الدولة الأموية، بهدف تحفيظ المسلمين الصغار القرآن الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة، بالإضافة إلى أنظمة الشعر، وبعدها بقليل بدأ تعليم الطلاب قواعد النحو، وأساسيات علوم الحديث. وفى مصر لقيت الكتاتيب رواجًا واسعًا، حتى أن شعبيتها تساوت مع المدارس، حتى بداية ثمانينيات القرن العشرين.


وأخذت الكتاتيب شكل الحلقات التى يديرها «سيدنا»، منذ بداية نشأتها واستمرت على هذا الحال، حتى يومنا هذا، ولم يجد تطوير سوى فى المكان، فبعد أن كان المسجد الجامع، الذى تنتشر فيه الحلقات، أصبحت توجد حلقة واحدة فى كل مسجد، وتلا ذلك الانتقال إلى بيوت الشيوخ، حيث يتم جمع التلاميذ فى «المندرة».


ولعب الكتاب دورًا كبيرًا فى إثراء الحياة الثقافية المصرية، إذ يُعد أحد أسباب ظهور ما يُعرف بالإنشاد الديني، لارتباطه بحسن تعلم الأطفال للغة العربية، مما سمح بأن يتقن أصحاب الأصوات الجميلة منهم، إلقاء التواشيح والأناشيد الدينية. وكان سيد درويش، أيضًا من أبرز من التحقوا بالكتاب، وكان عندها فى الخامسة من عمره، حيث حفظ أجزاء من القرآن الكريم، وتعلم كذلك حفظ الأناشيد على يد سامى أفندي. الأمر ذاته تكرر مع الموسيقار الكبير الشيخ زكريا أحمد، الذى أجاد تلاوة القرآن الكريم. فى الكتاب، وتعلم مبادئ الإنشاد الدينى على أيدى الشيوخ على محمود، وإسماعيل سكر، وأحمد ندا، وهناك أيضا الراحل الكبير محمد القصبجي، الذى التحق الكتاب وتعلم فيه، ما تعلمه سابقوه.


صورة سيدنا بين الفكاهة والمكانة المرموقة

يشير التاريخ إلى أن الصورة النمطية الكوميدية لـ«سيدنا»، تعود إلى خلفية قديمة، سجلها بعض المؤرخين، فى صورة طرائف لشيوخ الكتاتيب وكانوا يعرفون باسم «المُؤّدِّبِين»، ومن ذلك ما ذكر من أن «معلم الصبيان»، لم تكن تؤخذ بشهادته أمام القضاء، وكانوا يتلقون رواتبهم عبارة عن قليل من المال، أو البيض والخبز، كان بعضهم يلجأ للقراءة فى المقابر، مقابل «الرحمات».

مكانة مرموقة

الصورة السابقة لم تكن هى كل حقيقة «سيدنا»، إذ إنه تمتع بمكانة تاريخية مرموقة، بل إن عددًا من المحفظين تولوا مناصب مرموقة فى الدولة، من بينهم الحجاج بن يوسف الثقفي، الذى كان معلمًا للأطفال فى الطائف، وانتهى كواحد من أهم أعمدة الحكم فى دولة بنى أمية، وهناك أيضًا إسماعيل بن عبدالحميد، صار وزيرًا للخليفة مروان بن محمد.

كما أن كثيرًا من كبار الفقهاء والعلماء، تعلموا فى الكتاتيب ومنهم الإمام الشافعي، الذى قال عن نفسه: «كنت يتيمًا فى حجر أمي، فدفعتنى فى الكُتاب، فلما ختَمت القرآن دخلت المسجد، وكنت أجالس العلماء».

كما شاركت المرأة فى نشر التعليم بالكتاتيب، ويقول التابعى عبدربه بن سليمان: «كتبت لى أم الدرداء فى لوحى فيما تعلمني: (تعلموا الحكمة صغارًا واعملوا بها كبارًا)، وقالت: (إن لكل حاصدا ما زرع من خير أو شر)»، وهذا دليل على مشاركة النساء فى الكتاتيب.