يتابع البروفيسور محمود ممدانى فى كتاب «المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة»، والذى نقله إلى العربية المترجم صلاح أبو نار، والصادر عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٨، بقوله: فى مستعمرة موزمبيق البرتغالية، توسطت الدولة الاستعمارية بين المطالب المتصارعة للمستوطنين البريطانيين المتعلقة بالأرض والعمل، وتلك الخاصة بمناجم جنوب أفريقيا المتصلة بمعازل ستصبح موطنا لجماعات الفلاحين التى ستزودها بالمهاجرين. وعرف قانون ١٩٢٩ الأساسى الخاص بالسياسة الأهلية فى المستعمرات البرتغالية، ابن البلد على النحو التالي: «جزء من جماعة يحكمها مباشرة أحد الرؤساء وتخضع - فى المقام الأول - للقانون العرفى الأفريقى». وكانت «إمكانية استخدام الأراضى الجماعية»، تمثل جزءا من هذا العرف الأفريقي. وفى عام ١٩١٨، صدر قانون تولى تعيين حدود تلك المعازل التى كانت أراضيها غير قابلة للنقل إلى ملاك خصوصيين. وعندما نصل إلى عام ١٩٢٧، سنجد أن مساحة المعازل قد تضاعفت أربع مرات. وعند البحث عن سبب تلك الضآلة الشديدة لعدد الأفارقة «المتحضرين» فى المستعمرات البرتغالية، والذين لم يتخط عددهم خمسة آلاف فى موزمبيق، لن نجده فقط فى صعوبة تحقيقهم لتلك المكانة، بل وأيضا فى فقدان الأفريقى المتضرر لكل حقوقه تجاه الأرض المملوكة جماعيا.
سعى المزارعون المستوطنون إلى نزح الأرض والعمل من الجماعات الفلاحية، من خلال سلسلة حروب كافير متواصلة ولا نهاية لها. وعلى العكس من ذلك كان رأس المال المنجمى يطالب باستمرار وجود الجماعات الفلاحية القادرة على إعادة إنتاج ذاتها (أى المعازل)، التى ستتولى فى الوقت نفسه تزويده بالعمل المهاجر عبر دورات متواصلة.
كانت إمكانية الاستخدام العرفى للأرض، هى التى تحدد الفلاحين الأحرار فى أفريقيا، بوصفهم فئة متمايزة عن غيرهم من الفلاحين الصغار فى أماكن أخرى. وكانت إمكانية الاستخدام الدائم نفسها، هى التى أعطت هؤلاء الفلاحين الاستقلال الذاتى جعل منهم فلاحين أحرارا قادرين على إعادة إنتاج أنفسهم. ومع أن واقعة هذا الاستقلال الذاتي، قد رصدت فى الدراسات الخاصة بخيار الخروج، فإننا لن نجد فى هذه الدراسات تناولا لمعناها، ذلك لأن إمكانية الاستخدام العرفى للأرض لا تعنى أن هؤلاء الفلاحين غير مسيطر عليهم، والصحيح أنها كانت تعنى أن نشاطهم الإنتاجى فقط يتشكل جزئيا بقوى السوق. وكى يتحقق مزيد من الإخضاع لنشاطهم للطلب الخارجي، ولكن دونما تحويل الأرض إلى سلعة محكومة بالسوق، سيكون من الضرورى استخدام القوة، وهو ما يعنى أن الجانب الآخر للاستقلال الذاتى فى هذه الحالة هو نظام القوة. وكون هذا النظام يدعى عرفا، ليس من شأنه أن يجعله أقل إكراهية بأى درجة. وإذا أردنا فهم طبيعة القوى التى تشكل نظام الإنتاج الفلاحى الحر، علينا أن نأخذ فى حسباننا هذا التأثير المتداخل لكل من الأسواق والسياسات الإكراهية، وهما التأثيران اللذان اعتدنا على رؤيتهما فى علاقة تناقض.
فى العقود المبكرة، لم يكن العمل الإكراهى مطلوبا فقط فى الزراعة والأعمال العامة، بل وكان مطلوب أيضا لخدمة عتالة الرأس؛ لأن وسائل النقل كانت غير ملائمة ونادرة، كان كل سلع التصدير ينتج فى مناطق تفصلها عن الشاطئ مساحة تقل عن ثلاثمائة كيلو مربع، أما المستعمرات الواقعة أبعد من ذلك، المتوغلة فى اليابسة، فقد نظمت بوصفها معازل عمل - وهكذا كلما توغل موقع ما داخل القارة تصاعد التشديد على العمل الإكراهى من أجل خدمة عتالة الرأس، أو «ماسورة الرءوس»، كما دعاهم مستكشفو الغابات. وداخل الاقتصادات المعيشة الواقعة فى مناطق القارة الداخلية، ظهرت فئة من العمل الإكراهى أضيفت إلى التزامات العمل الملزم قانونا. وظهرت تلك الفئة الجديدة من العمل الإكراهى استجابة لمطالب الشركات والأعمال العامة الكبيرة وأضحت وسيلة لأداء ضرائب متنوعة.
لم يكن العرف يبدو كتلة معتمة، لا ينفذ من خلالها ضوء الواقع المحيط بها، بل كان يبدو كتلة شفافة مضيئة. كما لم يكن العرف ثابتا راكدا، بل كان متغيرا وفعالا. على الرغم من صلابة السلطات الأهلية، والسلطة المتزايدة للدولة المركزية، أسهمت حركية اقتصاد السوق، ومعها الأنشطة المنظمة للشرائح الاجتماعية المختلفة، فى إعطاء العرف محتوى متغيرا. ولكن من الصحيح أيضا أنه ما دام الشكل العرفى مستمرا فى مكانة المعتاد، سيمارس تأثيرا فى عمليات السوق ومبادرات القوى الاجتماعية، فى حين يحتوى الاثنين داخل قالب قبلى محدد عرفيا.
بما أن الأرض كانت تعد مصدرا لقوة القبيلة، وكانت إمكانية استخدامها حقا عرفيا مقتصرا على أعضاء القبيلة، شكل الفلاحون المهاجرون المدعون بالغرباء، المجموعة الأولى من الأفراد الخاضعة لجباية المال مقابل الحق فى استخدام الأرض، وبمعزل عن المدى الزمنى لهذا الاستخدام. فى أفريقيا الخاضعة للعرف لم يكن من الممكن شراء الأرض، لكن كان من الممكن استعارتها. وملكية الأرض لم يكن من الممكن أن يتغير صاحبها، لكن كان هذا ممكنا بالنسبة إلى حيازتها. ولقد بدأت ممارسة استعارة الأرض على أيدى الغرباء، ثم امتدت بسهولة لتشمل أعضاء الجماعة الأشد فقرا، مع اتجاه عدد السكان إلى التزايد وتطور التمايز الداخلى بينهم.