يتابع البروفيسور محمود ممدانى فى كتاب «المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة» والذى نقله إلى العربية المترجم صلاح أبونار والصادر عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٨ بقوله: «لم يكن القانون العرفى مهتمًا بمشكلات تقييد سلطة الدولة، وانحصر اهتمامه فى فرض تلك السلطة». شددت النظرية الليبرالية على الطابع المزدوج للقانون، فهو يصدر عن الدولة، وفى الوقت نفسه يكبح سلطاتها. ولقد قيل فى هذا الصدد إن السلطة تؤسس على الرضا، وإن أوامر الدولة يفترض فيها أن تكون ملتزمة بالقانون وليست تعسفية، وكان هذا هو معنى الزعم أن المجتمع المدنى تشكل عبر حكم القانون، لكننا لن نجد أيًا من تلك المزاعم يبدو مقنعًا، مع سعى السلطة إلى تأمين نظامها من خلال الغزو وليس الرضا. فى مثل هذا السياق كان انتصار الإدارة التقنية، تحت قناع الحكم غير المباشر من خلال القانون العرفى، ليس سوى الانسحاب إلى الإدارة القانونية.
وكان هذا الانسحاب حكمًا غير مباشر. كتب لوجارد مبررًا فى موضوع من كتابة، أن نظر الأفريقى البدائى، من واقع أنهما موحدان فى شخص حكامه. وفى موضوع آخر، نراه يسلم أنه داخل بلد حديث العهد بالإدارة، وفى سياق فترات العسر السياسى، قد تظهر ظروف يمكن أن تدفع إلى التخلى عن المنظور القانونى الصارم وإفساح الطريق أمام ما عملى ونفعى.
كان احترام القانون فى ظل الظروف الاستعمارية، يعنى عمليًا احترام صانع القانون ومنفذه، والصانع المنفذ كانا غالبًا شخصًا واحدًا. ولنتأمل على سبيل المثال العمل الروتينى اليومى لمفوض مقاطعة بريطانى فى توندورو جنوب تنانيقا، وفقًا لهذا الرصد الذى أورده لوملى: «كان من عادة السيد س أن يخرج للتمشية كل مساء مرتديًا قبعة، وقبيل مغيب الشمس، وعندما يصل إلى الموقع الذى سيستدير عنده عائدًا إلى منزلة، سوف يعلق قبعته على شجرة ملائمة، ويعود إلى منزله بلا قبعة. إن أول أفريقى سيمر عبر هذا الطريق فى أعقاب رحيل س، ويرى قبعته المعلقة على الشجرة خلال مروره، كان من المتوقع منه أن يأخذ تلك القبعة إلى منزل السيد س، وهناك يسلمها إلى خدمة، حتى لو كان هذا الأفريقى ماضيًا فى الاتجاه المعاكس فى رحلة طويلة. وإذا تجاهل وجود القبعة، سوف تنتابه المخاوف أن نظام المخابرات التابع للسيد س سوف يلحق به.
وعلى سبيل المثال، كان ابن البلد فى المستعمرات الفرنسية فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذا تخطى فى طريقة إداريًا فرنسيًا، وامتنع عن توجيه التحية إليه، يخاطر بمصادرة غطاء رأسه وإيداع الغطاء فى مكتب دائرة القائد. ولقد أدت «إصلاحات» ١٩٢٠ فى غانا إلى ترجيح «إهانة رئيس»، أو «قرع الطبول»، أو «الامتناع عن إبداء الإجلال للرئيس». وفى الاتجاه نفسه اقترح مجلس كوازولو التشريعى فى عام ١٩٧٦، زيادة غرامة الإهانة من أربعة راندات إلى مئة راند حدًا أقصى. وعلى عكس ما هو متوقع، تفوقت الدولة المركزية عمليًا الرؤساء، إذ سمحت برفع سقف العقوبة إلى مستوى أعلى يصل إلى مأتى راند، لكن أحد أعضاء المجلس المشار إله جادل أن زيادة الغرامة: «لن تنتج منها تغييرًا فى السلوك المهين الموجود داخل الجماعات، حيث إن الأهالى غير المطيعين لرؤسائهم عادة من الفقراء». ولأنهم ليسوا فى وضع يمكنهم من دفع الغرامات المالية، طرح عضو المجلس معاقبة الفقير عقابًا جسديًا لما ارتكبه من إهانات.
لا يمكن فهم وضع الخاضعين للقانون العرفى والحكم غير المباشر عبر مؤسسة الرئاسة، من خلال خطاب تكون حول مسألة إمكانية الحصول على الحقوق القانونية. يمكن فهم مأزق الفقير الحضرى الذى يعيش فى حدود السلطة المدنية الحديثة -أى حدود المجتمع المدنى المعينة عبر القانون- فى تلك المقايضة التى جرت بين مساواة شرعية أمام القانون ولا مساواة اجتماعية فعلية، بمقتضاها أصبحت إمكانية الوصول إلى المؤسسات القانونية أمرًا خياليًا فى أغلب الأحوال، من واقع افتقار هؤلاء الفقراء إلى الموارد اللازمة للوصول إلى تلك المؤسسات. أما وضع الفقير الريفى فكان على العكس من ذلك، فلن نجد مشكلته فى افتقاده إمكانية الوصول إليها، بل فى القانون الفعلى، القانون العرفى، والآلة المطبقة له، أى السلطة الأهلية، التى يواجهونهما، الأمر الذى يعنى أن مشكلة هؤلاء الريفيين لا يمكن فهمها من خلال غياب المؤسسات أو بعدها، ولكن من خلال الحضور المباشر والفعلى لتلك المؤسسات. هذا الكل المترابط والمنسجم من المؤسسات، أى نظام الحكم غير المباشر بعد القضاء على عنصريته، نجد التصور النظرى الأمثل له فى كونه جهاز دولة تابعًا لكنه يتمتع باستقلال ذاتي.
فى المناطق التى وجد فيها الفلاحون الأحرار أنفسهم فى مواجهة مع برجوازية زراعية ذات أصول استيطانية وجائعة لقوة العمل، حل الدمار الاجتماعى بهؤلاء الفلاحين، ومع ذلك أخفقت تلك البرجوازية الزراعية فى السيطرة على السلطة السياسية، ومن ثم أخفقت تلك البرجوازية الزراعية فى السيطرة على السلطة السياسية، ومن ثم أخفقت فى السيطرة على أجهزة القوة الممأسسة. ولقد حوصرت طموحاتها بفعل عائق مزدوج طرفاه المقاومة الفلاحية من جهة، والمطالب المتصارعة للأقسام الأخرى لرأس المال من جهة أخرى. فى مستعمرة مثل كينيا، جاء تمرد الماوماو الفلاحى، ليكبح طموحات الطبقة الزراعية المستوطنة التى كانت تسعى إلى السيطرة على الفلاحين الأحرار. ومن الممكن أن يكون الماوماو قد خسروا معركتهم عسكريًا، لكن المستوطنين بدورهم انهزموا سياسيًا. وإذا تمعنا فى التسوية التى أعقبت تمرد الماوماو، سنجد فى قلبها ما يعرف باسم خطة سوينرتون، وهى برنامج إصلاحى لإعادة توزيع الأرض استهدف اجتماعيًا توسيع صفوف الفلاحين، لكن إعادة التوزيع الذى أوصت به لجنة الأرض الكينية، وقبلته الحكومة الكينية، ولم يسع أساسًا لنزع ملكية الأفراد والجماعات بل انطوت على إضافة كتل من الأرض إلى «المعازل القبلية».
وللحديث بقية