يتابع البروفيسور محمود ممدانى فى كتاب «المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة»، والذى نقلة إلى العربية المترجم صلاح أبو نار، والصادر عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٨، بقوله: «كانت جمهوريات البوير المبكرة هى الأكثر مقاومة للاعتراف بأى نوع من القانون العرفى، ذلك أن هذا الاعتراف بالقانون الأهلى كان يعنى الموافقة على الاستقلال الذاتى الأهلي، وهو ما كان من شأنه ليس فقط الإضرار بضمائرهم الدينية الكالفيينة، بل وأيضا بمطالبهم الأكثر عملية وإلحاحا الخاصة بالأرض والعمل والأمن. أقرت دولة الأورانج الحرة قانون الميراث العرفى. على أن «يطبق على ممتلكات الممارسين الفعليين للزواج الأحادى».
ولقد تقدم المستوطنون بالتماسات إلى مجلس شعب دولة الأورانج الحرة، من أجل منع «الشرور الناتجة عن الزيجات القبلية، مثل: «التبادل الشبيه بالعبودية للنساء والأطفال، وسوء المعاملة، وسرقة الماشية من أجل دفع مهر الزوجة». والأمر المثير للسخرية أن هؤلاء الرجال الأخلاقيين كانوا ينتمون إلى مجتمع اعتاد أن يشن غاراته على قرى القبائل من أجل الحصول على عمل الأطفال.
أصدر مجلس شعب الترانسفال تشريعات مناهضة للزواج القبلي. وأعلن القانون رقم ١٣ لعام ١٨٧٦، عبر مصطلحات متسامية: «دعما للمبادئ الأخلاقية، يحرم قانون البلاد شراء النساء أو تعدد الزوجات بين السلالات الملونة فى تلك الجمهورية»، وحكمت المحكمة العليا بأن تعدد الزوجات «لا يتسق مع المبادئ العامة للحضارة». وعلى نحو مماثل، حظر توجيه صادر عام ١٨٩٥ المطالبة بمهر الزوجات فى جمهوريات البوير. وهنا – كما كانت الحال فى المرحلة المبكرة من تاريخ الكيب – كانت سياسات السيطرة على الأهالى تتجه إلى التركيز على السلالة، وليس على القبيلة. وكانت علة هذا التركيز واضحة تماما. إذ كان من الضرورى العمل على تدمير الاستقلال الذاتى للقبيلة، من أجل تدفق الأرض والعمل إلى المستوطنين والأسواق التى يسيطرون عليها، ثم من أجل تدمير قدرة الأجهزة القبلية على العمل بوصفها وسائط للمقاومة.
وتماما كما فعل البريطانيون عند نهاية القرن التاسع عشر، والفرنسيون والبلجيكيون فى عشرينيات القرن العشرين، والبرتغاليون فى عقود لاحقة، انتهى حكام جنوب أفريقيا بدورهم إلى رؤية فئات الأهالى الجديدة المتحضرة ثقافيا بوصفها خطرا سياسيا أخذ فى النمو. ومن أجل السيطرة على هذا التهديد ستسعى الدولة إلى تدعيم القانون العرفى ورؤساء القبائل، وعلى الأخص عندما كانت الظروف المتغيرة تسارع من ضعضعة دورهما ومكانتهما. وبما أن القبلية تبدو الآن منهوكة القوى، ولم تعد تشكل تهديدا لأمن المستوطنين أو بديلا لسوق العمل قادرة على البقاء، سيصبح من الممكن اكتشاف فضائل جديدة فى تلك القبلية المتجددة. من أوائل القرن العشرين قادت المواجهة بين السلطات القبلية الذابلة والحكام الاستعماريين القلقين فى النهاية إلى ميلاد قبيلة أخرى، يجب فهمها بوصفها نتاجا لمواجهة تاريخية خاصة أكثر من كونها تعبيرا عن فضالة تاريخية. وكى نفهم دلالة هذا التحول يجب أن ندرك أنه حتى عندما رأت الحكومات الاستعمارية المبكرة بوجود القانون العرفى، كما كان أمر الناتال، دافعت عن ذلك بوصفه شرا لا مفر منه وليس فضيلة.
كانت السلطات العرفية هى الرؤساء. إن هؤلاء الرؤساء الذين كانوا قد جردوا من قوتهم العسكرية وفقدوا سيطرتهم على التجارة البعيدة المدى، واجهوا العصر الجديد بقدر عظيم من القلق. فلنأخذ مثالا رؤساء الشاجا فى إقليم كاليمنارو فى تانجانيقا. من واقع أن موارد دخلهم القديمة حل بها الجفاف، من الحرب إلى الإغارة على الماشية ومن تجارة العبيد إلى تجارة العاج، بحث هؤلاء الرؤساء باستماتة عن طريق جديدة لكسب دخل إضافى، وتمكنوا من إيجاد تلك المصادر الجديدة. وكانت رسوم المحاكم أحد المصادر، ونجد مصدرا آخر فى الاستيلاء، المراقبين الألمان لفترة ما قبل الحرب الأولى، أن «الرئيس كان يحصل لنفسه على سبعة أضعاف ما كانت تحصل عليه الحكومة الاستعمارية فى ذلك الحين».
هل سيكون أمرا مثيرا للدهشة القول إن «فرض العرف» أصبح نوعا من التعبير المهذب، عن توسع الإدارة الاستعمارية وتطوير الاقتصاد الاستعماري؟ كانت محاكم السلطة الأهلية يديرها إداريون من الأهالي، وفى الوقت نفسه يشرف عليها جهاز آخر مكون من إداريين أوروبيين فقط، وعلى سبيل المثال، أسس إعلان المحاكم الأهلية فى نيجيريا المحاكم الأهلية دونما توضيح لإجراءاتها أو ممارستها، فيما عدا منح مفوض المقاطعة سلطة وضع اللوائح المتصلة بها. وعندما وضعت اللوائح «لم تكن كاملة شاملة، وهكذا تركت المحاكم لتوجيهات مفوض المقاطعة الإدارية». وكان هذا المفوض هو المدير المسئول القائم على تحديد القانون العرفى غير المقنن. ومن ناحية ثانية أبعد المحامون عن تلك المحاكم تجنبا لمشكلاتهم.
وللحديث بقية..