رغم بشاعة المجزرة الإرهابية والجبانة، بمسجدى نيوزيلندا، فى 15 مارس الجاري، والتى استشهد وأصيب خلالها العشرات من الأبرياء، الذين كانوا يدعون ربهم آمنين مطمئنين، إلا أن حكومة هذ البلد الصغير الواقع فى جنوب غرب المحيط الهادئ، وبرلمانه وشعبه، بشكل عام، استطاعوا تصدير صورة إنسانية وحضارية أكثر من رائعة، تضمنت من المشاعر السامية والراقية، جعلت ملايين المسلمين وذوى الضحايا بل وأغلب سكان العالم يحبهم ولا يكرههم، وينظر إليهم بعين الاحترام والرقي، بل يطالب الكثير بمنح السيدة «جاسيندا لوريل أرديرن» رئيسة وزراء نيوزيلندا، وهى أصغر رئيسة حكومة فى العالم، وثالث امرأة تتولى المنصب فى بلدها، جائزة نوبل للسلام.
لقد استطاعت رئيسة الوزراء، رغم تهديدها بالقتل، من قبل متطرفين، أن تدير أزمة المذبحة الإرهابية البشعة، التى ارتكبها اليمينى المتطرف، فى مسجدى مدينة «كرايست تشيرش»، بكل نجاح، وأثبتت أنها على قدر المسئولية والمنصب، وقد نجحت فى تحويل الكارثة، إلى حملة علاقات عامة شعبية وسياسية كبيرة، جعلت منها ومن بلادها محط أنظار واحترام العالم كله، والمسلمين بشكل خاص، كما أنها عملت على قيادة المرحلة باحترافية تحسد عليها، وحافظت على التماسك الوطنى والمجتمعى بين جميع فئات نيوزيلندا المتعددة، معلية من قيم التسامح والتعايش، كما نجحت فى اظهار بلدها بالخارج على أنه نموذج للعالم المتحضر، ليصبح اسم بلدها، بل واسمها الشخصى على ملايين الألسنة، لا يذكران إلا بكل الاحترام والتقدير.
إن أفعال تلك السيدة العظيمة، سيسجلها التاريخ بأحرف من نور، حيث قدمت نموذجًا عظيمًا للتعايش بعيدا عن التطرف الدينى والعرقي، فلا فرق عندها بين مسيحى ومسلم ويهودى وآخرين.. وكأنها بذلك تتحول إلى نموذج عملى لما يدعو إليه الدين الإسلامى الحنيف، من أنه لا إكراه فى الدين، فهى لم تتعامل مع المسلمين، فى نيوزيلندا كمهاجرين أو وافدين، بل جزء لا يتجزأ من شعبها، وبمجرد وقوع الحادث الإجرامي، سارعت إلى تقديم الدعم المعنوى للضحايا وأسرهم، من خلال وضع باقات من الزهور أمام المسجد الذى تعرض للهجوم، وارتدت الحجاب إظهارًا للتضامن مع الجالية المسلمة هناك، ليس هذا فحسب بل سمحت بأن يدوى صوت الآذان لصلاة الجمعة، فى مدينة كرايستشيرش، وشتى أنحاء نيوزيلندا، وأن تنقل صلاة الجمعة على الراديو والتليفزيون، هناك وذلك لأول مرة فى تاريخ البلاد، وقادت آلاف الأشخاص للوقوف حدادا فى متنزه هاجلى أمام مسجد النور، وقالت «السلام عليكم.. أنتم منا ونحن منكم، إن نيوزيلندا تشاطركم الأحزان، نحن واحد»، ولأول مرة أيضا، استعانت فى خطابها، بحديث شريف لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث قالت نصا: «الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، قال «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».. وأمرت بإجراء تحقيق قضائى مستقل فى المذبحة، وأظهرت دعما وتعاطفا كبيرين للمسلمين فى عودتهم للمساجد، وبخاصة يوم الجمعة.. وعند سؤالها عما إذا كان من الممكن وقوع أعمال انتقامية من جانب تنظيم «داعش»، قالت» «ما سمعته من المسلمين هو رفضهم للتطرف والعنف والكراهية، مهما كان مصدره».
الحقيقة أن السيدة رئيسة الوزراء، لم تكن الوحيدة، فى هذه الصورة الوردية، بل ظهر معها فى الصورة البرلمان النيوزيلندي، الذى افتتح جلساته بعد الجريمة النكراء، بتلاوة آيات من القرآن الكريم، تكريمًا لضحايا الحادث الإرهابي.. ووقف جميع أعضاء النواب، أثناء قراءة القرآن الكريم، داخل القاعة، وتلى الإمام طاهر الحق، آيات من سورة البقرة، وقام بعدها الإمام طاهر نواز، بترجمة الآيات إلى اللغة الإنجليزية، وختم قراءته بالدعاء للضحايا بالرحمة والمغفرة، وإلى عائلتهم بالصبر والسلوان، وكذلك المصابين بالشفاء العاجل، وأن يعم السلام نيوزيلندا والعالم، وسط هدوء والتزام الحاضرين بالقاعة الذين رددوا خلفه «آمين».
ولم تتخلف نساء نيوزيلندا عن الصورة المشرقة، فقد ارتدت الكثيرات منهن الحجاب وعلقن ورودا حمراء على ستراتهن، إظهارًا للتضامن مع الجالية المسلمة، وقدمن التعازى للمسلمين فى البلاد، ظهر ذلك مع الشرطيات والمذيعات فى القنوات الفضائية النيوزيلندية، بل والمواطنات العاديات فى الشوارع، فى رسالة سامية للتسامح والترابط المجتمعى، محذرات من ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، التى يتبناها المتطرفون فى الغرب.
وضمت الصورة أيضا، قوات الشرطة النيوزيلندية، التى فرضت حراسة أمنية على المساجد فى جميع أنحاء البلاد منذ الهجوم، وانتشرت بكثافة لطمأنة المصلين، وضع الضباط فى محيط كرايستشيرش شارات خضراء على صدورهم تعبيرًا عن السلام والتضامن.
وكعادتها سارعت الصحافة لتجد لها مكانا فى الصورة الحضارية، حيث خصصت الصحف النيوزيلندية، صفحات كاملة نعت فيها جميع الضحايا بأسمائهم، ودعت إلى حداد وطنى، بينما قالت صحيفة «نيوزيلند هيرالد»، فى صفحتها الأولى «دعوة إلى الصلاة.. فى الوحدة قوة».
الإرهاب الأعمى والتطرف فى كل مكان، لكنه يبدو أنه لا مكان له فى نيوزيلندا بعد اليوم، فالشعب والحكومة يلفظانه، وقد كان الحادث الإرهابى الغاشم بداية مهمة لتعريف الغرب المنغلق على قيمه وعاداته بالإسلام الحقيقى ذلك الدين العظيم الذى يدعو إلى المودة والرحمة وعدم الظلم لأى إنسان مهما كان دينه أو عرقه أو لونه أو نسبه.. وفى الختام ندعو بالرحمة لضحايا الحادث الإرهابي، الذين نحتسبهم عند الله شهداء، وبالصبر لذويهم، وبالشفاء للمصابين، وأخيرا كل التحية والتقدير للشعب النيوزيلندى وحكومته وبرلمانه.