الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ما تركه لنا حامل القنديل (٢)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى الجزء الأول من المقال، قدمنا الظرف التاريخى والموضوعى الذى استقى منه أديبنا الكبير/يحيى حقي، روايته قنديل أم هاشم، وفِى الجزء الأخير من المقال؛ حريٌ بِنَا استعراض قيمة الرواية الفنيّة. 
تدور الأحداث فى حارة الميضة، اللصيقة بمقام «أم هاشم». يحكيها ابن أخ «إسماعيل» بأن: عمه الشاب الخجول المجتهد، كان يرتاد مقام السيدة متطلعًا لقنديل الزيت المُعلق فى صحن الجامع، يطلب الكلفة الزيت من الشيخ درديرى- خادم المقام- لفضله فى العلاج وجلب البركة. الشيخ درديرى يردد لإسماعيل بأن: كل ليلة حضرة يجىء سيدنا الحسين بنفسه، متبوعًا بآل بيت النبى الأطهار، فى موكب مهيب من الخيل المحاطة بالبيارق العملاقة، ولا يرى الموكب إلا الصالحون- مثله- وأولياء الله. يسمع منه إسماعيل وعقله فى وادٍ آخر؛ شغف قلبه حُب فتاة «مومس» سمراء، ترتاد المقام؛ عسى أن يتوب عليها الله. لما أتمّ دراسة البكالوريا، برغبة من الجد- والد إسماعيل- أن يتعلم ابنه تعليمًا مدنيًا؛ أرسله إلى إنجلترا ليدرُس الطب. 
فى إنجلترا، تتوالى الصدمات الحضارية على وجدان إسماعيل، لكنه سرعان ما يأنس الحياة الجديدة بكل مباهجها وفتنتها، ترافقه زميلة الدراسة «ماري» التى لقنتّهُ قِيَمْا مختلفة، أشبعته بروح الحضارة الغربية الغاوية. ففسق معها، وسكر وانغمس فى الرذائل، لا تكُف «ماري» عن غوايته- حتى زهدت فيه، ورافقت زميلا آخر من بنى قومها، لمّا اكتشفت أن- إسماعيل- مهما غيرتهُ لا يناسبها، إذ يبقى فيه ذلك الشرقى الكامن بكل عواطفه وسذاجته، وإيمانه بالغيبيات الراسخة فى صميم تكوينه- ولو تظاهر بغير ذلك، ومفارقة الرواية هنا أن: إسماعيل لا يرى فى نفسه أى صلة بماضيه، يتنصل من شرقيته، بعدما اعتقد أنه صار إنسانا جديدا يحيا بالعلم وحده.
بعد سبع سنوات، يرجع إسماعيل إلى مصر، محملًا بمفاهيم مختلفة، رافضًا للدين؛ إذ يعتبره سبب الخرافة وباعثًا للأوهام. كارهًا للعشوائية والفقر والمرض والتلوث- التى تردم بنى وطنه تحت ترابها، ناقمًا حتى على بيته الذى بات يراه غير صحي، ينهر أبيه وأمه لعادتيهما المتخلفة فى طهى الطعام وطرق النظافة. يتفاجأ بفاطمة- بنت عمه- مصابة بداء فى العين، يكاد يذهب ببصرها، الكارثة أن أمه تصُّب قطرات النفط- زيت قنديل أم هاشم- فى مقلتها الكليلة؛ أملًا فى البركة لشفاءئها من اعتلال البصر. يثور إسماعيل على ما اعتبره جهلًا وجريمة طبية فى حق مريضته؛ لم يتورع أن يندفع إلى الجامع محطمًا القنديل المعلق فى إجلال، فيكاد يفقد حياته من تكالب المتوسلين- رواد المقام- عليه بالضرب المبرح. اعتمد فى علاج فاطمة على الأخذ بسبل العلم المادى وحده- ما لم يُقنعها، لكنها امتثلت له ثقةً فيه، فإذا به يفشل فى علاجها لتصاب بالعمى الكامل. هرب من البيت كسيرًا ومخذولًا؛ لأن عماها يعنى عماه، وإخفاقه يعنى هدم كل معتقداته المادية. 
لا يزال خارج البيت مصرًّا على عناده، وتائهًا يغطُ فى حيرته. حتى هلَّ شهر رمضان الذى لم يصمه أو حتى يفكر. فى ليلة القَدْر، ساقته قدماه للمقام، شاف الفتاة المومس السمراء داخل المقام، وقد تاب عليها الله؛ فطرق الإيمان قلبه من جديد، ودخل إلى الشيخ درديرى يطلب شيئًا من زيت القنديل المبارك. منح فاطمة راحة استقرت فى يقينها ببركة الزيت، ودأب يعالجها بالعلم الذى يسنده الإيمان. ارتد لفاطمة بصرها بسرعة كبيرة ؛ بفضل الله- أولًا- ثم الأخذ بالأسباب التى سخرها الله لعباده، باستخدامه العلاج الطبى المعاصر. تزوّج من فاطمة، وأنسلها أحد عشر طفلًا، نذر بعدها حياته لعلاج المرضى من الحفاة والفقراء- فى عيادة افتتحها بحى البغالة. لما مات، ذكره أهل الحى بكل خير، وترحموا عليه.