تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يتابع البروفيسور محمود ممدانى فى كتاب «المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة، والذى نقلة إلى العربية المترجم صلاح أبو نار، والصادر عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٨، بقوله: كانت الحقيقة المركزية للسلطة السياسية، كما واجهت- ولا تزال تواجه - المنتج الفلاح، هى تلك الطبيعة الفردية والمدمجة لسلطة الرئيس. فلتضع نفسك فى مكان فلاح فقير فى ريف أوغندا أوائل ثمانينيات القرن العشرين، يجد نفسه فى مواجهة رئيس فى وقت جمع الضرائب، أو فى أى مناسبة يتقرر فيها التزام ما وكانت مناسبات كثيرة. يمتلك الرئيس الحق فى إصدار قانون خاص يحكم منطقتك، وهو من يتولى تقييم ملكيتك الصغيرة، ويحدد - من ثم - مقدار الضرائب التى يجب أن تؤديها، وهو من يأتى لجمع الضرائب نفسها، ومن يقرر إلزامك بدفع غرامة إذا حدث وتخلفت عن دفع تلك الضرائب، ومن يسجنك إذا أخفقت فى دفع الضريبة والغرامة، ومن يقرر أين تعمل خلال سجنك، ومن يفرج عنك عند انتهاء العقوبة.. هكذا كان يقرر أين تعمل خلال سجنك، ومن يفرج عنك عند انتهاء العقوبة.. هكذا كان الرئيس يجمع فى شخصه الواحد كلا من المشروع الصغير والإدارى والقاضى والشرطي، وكل لحظة من لحظات السلطة، أى التشريعية والتنفيذية والقضائية والإدارية، كانت مجتمعة فى شخص هذا المسئول الواحد.
وفى ظل وضع كهذا ليس هناك أى قيود أو توازنات داخلية قادرة على ضبط ممارسات السلطة، دعك من إمكانية وجود قيود شعبية وديمقراطية. ولم يكن الرئيس مسئولا إلا أمام سلطة إدارية أعلى. وتنص قاعدة غير مدونة من قواعد عمل الحكم غير المباشر على عدم جواز تجاوز السلطة الأدنى، فالاهتمام بأى شكوى تأتى من خلف ظهر الرئيس يعنى التقليل من مكانته، والإقدام على هذا النوع من الإضعاف لمسئول تابع والإقلال من هيبته من شأنه أن يهد المكاسب التى جرى مراكمتها بصبر عبر أعوام من العمل الإداري.
أن أفريقيا الفلاحين الأحرار قد وقعت فى شرك صيغة لا عنصرية من الأبارتهيد. وما نجده أمامنا هو عالم ثنائى لم يعد منظمًا على أسس عنصرية فقط، بل عالم أضحى فيه الخط الفاصل بين من يعدون بشرا والبقية المعتبرة أقل إنسانية، هو نفسه الخط بين الذين يعملون فى الأرض والآخرين الذين لا يعملون فيها. وتلك الثنائية تتوالد منها سلسلة أخرى من الثنائيات، فالأتباع تنبذ معتقداتهم بوصفها وثنية، ولكن معتقدات الطرف الآخر تحمل صفة الدين. واللحظة المنمطة فى حياة الأتباع اليومية ينظر إليها بوصفها طقوسا، ولكن اللحظات نفسها لدى الجانب الآخر ينظر إليها بوصفها ثقافة. أما النشاط المبدع للأتباع فهو يعد حرفا، فى حين يمجد على الجانب الآخر بوصفه فنونا. وتواصلات الأتباع الشفهية ينظر إليها باحتقار بوصفها فنونا. وتواصلات الأتباع الشفهية ينظر إليها باحتقار بوصفها ثرثرة محلية، فى حين ترفع تلك التواصلات على الجانب الآخر إلى مستوى الخطاب اللغوي.
وباختصار داخل هذا العالم الثنائى كان عالم «الهمجيين» معزولا كأفعال وكلام عن عالم «المتحضرين». هذا العالم المنقسم بين فلاحين أحرار يتجمعون داخل حاويات عرقية منفصلة، لكل منها قوقعة عرفية تحرسها سلطة أهلية من جانب، ومجتمع مدنى يقيده القانون الحديث للدولة الحديثة، ألا يعكس الخطوط العامة المميزة لنظام الأبارتهيد؟ ألم تكن الدولة الاستعمارية هى الشكل الأساسى لدولة الأبارتهيد؟ ألم تنته عملية القضاء على الطابع العنصرى لبنية الدولة خلال مرحلة الاستقلال إلى التوافق مع تراث الاستعمار المؤسسى؟ وتبعا لهذا المعنى الذى تظهره أفريقيا المستقلة فيما يتعلق بنظام الأبارتهيد؛ فإن إحدى النتائج الممكنة لدولة أصلحت عبر القضاء على طابعها العنصري، سواء تحقق ذلك عبر النضال المسلح أو عبر التفاوض، وسواء من خلال الاستقلال عن الحكم الاستعمارى أو عبر الارتباط الاستراتيجى مع أقلية مقيمة تنتمى إلى المستعمرين السابقين، هى تأسيس استبداد لا عنصرى ولكن لا مركزي.
كانت القبائل بالنسبة إلى مستوطنى جنوب أفريقيا الأوائل هى السمة المميزة للواقع الاجتماعي. واتفق المستوطنون عامة على أن القبيلة مصدر للخطر، بل ومصدر عظيم، وعلة ذلك أن القبائل كان من الممكن إخضاعها، بل وغزوها، لكنها أيضا كانت تحدد المقاييس المعيارية لأسلوب حياة ذاتى مستقل. وكان لتلك الاستقلالية الذاتية وجوه متعددة، إذا كان الاقتصاد القبلى مصدرا للمعيشة، وكانت الإيديولوجيا القبلية مصدرًا للهوية والغاية العامة، كما كانت المؤسسات القبلية موضوعا محتملا للمقاومة الفلاحية. وفى مواجهة طريقة الحياة القبلية أصبح المستوطنون محاربين متفانين عن سياسة «متحضرة» تسعى إلى تحرير رجال القبائل من سطوة رؤسائها ونساء القبائل من عبودية النساء.
متبعا منطق السياق السابق، طرح باين حاكم الناتال، ما يلي: «بما أن» زوجات الرجل هن عمليا إماؤه»، سنجده «كلما امتلك مزيدا من الزوجات أضحى الحاكم: «كيف يمكن لبريطانى لا يمتلك سوى ساعديه أن ينافس أحد الأهالى الذى يملك من الزوجات الإماء ما بين خمس زوجات وعشرين زوجة؟»، ومن أجل توضيح الأمر تماما أقرت لجنة الكافير لعامى ١٨٥٢ و١٨٥٣، أن «أهالى جنوب أفريقيا السود يزدادون ثراء واستقلالية بسرعة»، لكنها تحفظت عبر تفسير ذلك بكونه دليلا على «زيادة وسائل الانغماس سوى الترحيب به»، لكنها أضافت متحفظة «بشرط أن يكون هذا الازدهار ناتجا عن جهد الرجال الأمين والمنظم، وليس كما هو حادث حصيلة تعدد الزوجات وعبودية النساء». وهكذا طرحت اللجنة توصياتها الأكثر استنارة، والتى طالبت فيها بالمنع القانونى لتعدد الزوجات، واللوبولو «مهر الزوجة».. وللحديث بقية.