يتابع ثلاثة من أشهر مؤرخى فرنسا، هنرى لورنس وجون تولان وجيل فينشتاين فى كتاب ضخم بعنوان أوروبا والعالم الإسلامى.. تاريخ بلا أساطير والذى نقلة إلى العربية بشير السباعى والصادر مؤخرًا عن المركز القومى للترجمة بقولهم: ويتحقق «التحول المتروبولى» للمسلمين عبر الإقامة الصعبة غالبًا لبنية تحتية لخدمات دينية. وسوف يتحقق تأكيد إسلام أوروبى خاص عبر الطلب الاجتماعى نفسه. ويتطلب تنوع الأصول تعددية فعلية تقترب من تعددية الكنائس البروتستانتية. وبعد الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١، كانت أوروبا ضحية للإرهاب الجهادى على أرضها، خاصة فى مدريد ولندن. ويتم النضال المعادى للإرهاب عبر تعاون متصل فى مجال المعلومات بين الأوروبيين وشرطة العالم الإسلامى.
والحال أن مجمل هذه الضغوط إنما يدفع البلدان الأوروبية إلى رؤية محافظة بالأحرى لعلاقاتها مع العالم الإسلامى. ويطمح التصور إلى أن يكون تصورًا خاصًا بالأمد الطويل. فأوروبا، بتشجيعها عمليات الإصلاحات وبتمويلها وتقديم عون تقانى لها، إنما تعمل على انتقال نحو عالم عربى أكثر ديمقراطية. ويبقى مع ذلك أن المحاورين العرب والمسلمين للأوروبيين لا يرون غير أفق ذرائعى فى علاقاتهم مع أوروبا. فأوروبا مرغوبة للإسهام فى تحسين أداءات أجهزة الدولة والاقتصاد حتى يتسنى تحديدًا. والحال أن المستقبل وحده هو الذى سينبئنا من من الطرفين ستكون له تأييد الغلبة. ويبقى مع ذلك أن المسألة الثقافية تظل جوهرية، فى الخطاب على الأقل. والمسئولون الأوروبيون، الفرنسيون خاصة، يتمسكون بمكافحة إشكالية صدام الحضارات. فحوار الثقافات فى جدول الأعمال. لكن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى تستثير انفعالات عنيفة.
فمن يتبنون تفسيرًا تقافيًا للبناء الأوروبى [الاتحادى] ينفون انتماء تركيا إلى الكيان الأوروبى. وهم لا يريدون أن يروا أن الواقع الثقافى والدينى لأوروبا لم يوجد إلا عندما كانت أوروبا مؤلفة من بلدان ذات تراث كاثوليكى وبروتستانتى.
ومع انضمام اليونان إلى الجماعة [الاقتصادية الأوروبية] فى عام ١٩٨١، فإن بلدًا بلقانيًا، أرثوذكسيًا وكان فى السابق عثمانيًا، ولم ينتمِ إلى الثقافة الأوروبية إلا اعتبارًا من القرن التاسع عشر على الرغم من دعواه بأنه وريث العصر القديم الكلاسيكى، هو الذى ينضم إلى الكيان الأوروبى الجامع.
لا يجب لأعمال العنف المميزة لأوائل القرن الحادى والعشرين أن تحجب وحدة المصير التى انبنت فى قرنين ونصف قرن بين العالم الإسلامى وأوروبا.
فاعتبارًا من النصف الثانى للقرن الثامن عشر، قامت أوروبا، بسبب قوتها المفرطة، بتحديد القواعد المتغيرة لعالمية جديدة رافقت توسع سيطرتها، وقد حلت محلها أمريكا الشمالية بشكل جزئى فى القرن العشرين. وعلى الرغم من تقلبات السياسة، استمر صوغ معايير جديدة عالمية المنزع. والأمر كذلك مع تحرر المرأة أو شرعنة المثلية. وتجد البلدان الإسلامية نفسها معرضة دومًا لضغوط هذه المعايير الجديدة التى تقلب بناها الأنثروبولوجية الأساسية.
والحال أن التحديث هو فى آن واحد مدفوع من جانب أوروبا/الغرب ونتاج لتطورات داخلية للمجتمعات الإسلامية. وكان الأمر كذلك مع اختفاء مجتمعات النظام القديم المراتبية وإقرار معيار المساواة فى الوضعيات وإعادات التعريف الهوياتية التى أدت إلى انبثاق النزعة القومية والدولة الحديثة. وفى كل لحظة، من المستحيل تحديد ما هو مستعار من الخارج وما هو إعادة تكوين داخلية.
والتدمير الخلاق القادم من أوروبا، وإن كان قد اكتسب استقلاليته الخاصة، إنما يتحقق، كما فى أوروبا، عبر اختراعات عديدة للتراث. ففى كل لحظة، تعين تبرير التجديد بربطه بالتراث الدينى والثقافى. والحال أن المرحلة الهوياتية والأصالية للخطاب الإسلامى المعاصر إنما تجد إلى حد بعيد نظيرتها فى أوروبا القرن العشرين، بما فى ذلك من حيث جانبها الأكثر سوادًا، كمعاداة السامية. وفى العولمة الراهنة، يحتل العالم الإسلامى موقعًا متوسطًا بين البلدان الصناعية القديمة والحديثة، والبلدان الأقل تطورًا، كما تبين ذلك الجداول المستندة إلى مؤشر التنمية البشرية. والأداء متوسط، لكنه ليس مُخزيًا. فهو لا ينطوى على انحدار عام لثقافة مجتمعات العالم الإسلامي.
والحال أن أوروبا، بإنتاجها العالمية، قد تعولمت هى نفسها. فثقافتها المادية مشربة تشربًا عميقًا بكل إسهامات العالم كما يدل على ذلك طعامها اليومى حيث نجد إسهامات كل العالم. ومن المستحيل فهم فنونها من دون الإحالات إلى ثقافات أخرى. وقد أصبح أدبها عالميًا منذ ترجمة ألف ليلة وليلة، فى مستهل القرن الثامن عشر. وقد تغير تركيبها البشرى وتحول قوامها الديني. وتحديد هوية أوروبية لا تأخذ فى الاعتبار تعددية مكوناتها من شأن أن يكون عبثًا لا طائل من ورائه كتحديد شخصية مسلمة منغلقة عن بقية العالم. والأرجح أن شرك الأصالة، الذى يستبعد الآخر بوصفه غريبًا، هو الخطر الأوسع انتشارًا فى كل العالم.
وتتمثل الحقيقة الواقعية التاريخية فى أن هناك اليوم فى كل شخصية أوروبية جزءًا مسلمًا، كما أن فى كل مسلم جزءًا أوروبيًا. والعنف الذى يتصور المرء أنه يمارسه ضد الآخر المرفوض هو بادئ ذى بدء عنف يمارسه المرء ضد نفسه هو. والحال أننا عندما نستفسر عن مكنوناتنا الوجدانية المشتركة سوف نتوصل إلى حوارات ثقافات حقيقي.