يتابع ثلاثة من أشهر مؤرخى فرنسا، هنرى لورنس وجون تولان وجيل فينشتاين فى كتاب ضخم بعنوان «أوروبا والعالم الإسلامى.. تاريخ بلا أساطير»، والذى نقله إلى العربية بشير السباعى، والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة، بقولهم: والحال أن الحكومة العثمانية، التى لا تثق به، تضطر مع ذلك إلى أن تطلب منه محاربة التوسع الوهابى شديد الخطورة على بقاء الإمبراطورية. فتتكشف حرب بلاد العرب التى خاضها ابنه إبراهيم باشا عن سلسلة من الحملات الظافرة تنتهى فى عام ١٨١٨ بالقضاء على الدولة الوهابية الأولى. وبما أن محمد على قد أصبح سيدا وسط شبه الجزيرة العربية والمدينتين المقدستين فى الحجاز، فإنه يتجه إلى السودان الذى يدور فتحه بسرعة بين عامى ١٨٢٠ و١٨٢٢. وهكذا يسيطر على ضفتى البحر الأحمر، الأمر الذى لا يمكنه إلا أن يزعج البريطانيين الذين يعتبرونه منذ البداية عدوًا. وليس من شأن وجود حاشية من المستشارين الفرنسيين حوله إلا أن يعزز هذه المخاوف.
وقد لجأ محمد على بشكل متزايد باطراد إلى مستشارين أوروبيين، إيطاليين، وفرنسيين بالأخص. وهو لا يعطيهم أى وظيفة فى السلطة، فيما عدا من يتحولون إلى اعتناق الإسلام، ويصبحون أعضاء فى البيت كـــ «الكولونيل» سيف الشهير. سليمان باشا. والحال أن محمد على، هو رجل يتميز بذهنية براجماتية بدرجة عميقة، إنما يدرك أهمية الوقوف على ما يدور فى أوروبا، وليس فقط فى المجال السياسى. ويصبح القناصل الأوروبيون والرحالة محاوريه الدائمين. وبتحدثه معهم، أدرك أنه لا يجب عليه مجرد السعى إلى الحصول على معلومات، بل يجب عليه أيضًا ممارسة عمل دعائى موجه إلى الرأى العام الأوروبى. وقد كان بهذا أول رئيس لدولة مسلمة يرغب فى رد خطاب أوروبا إليها، وجعله وسيلة للفعل السياسى. ونحو عام ١٨٢١، يمسك بتيمة التمدن لكى يؤكد أنه مدعو إلى إرساء أسس التمدن فى مصر، وهو أمر ليس من شأن الأمم الأوروبية أن تكون عديمة المبالاة به. وفى الأعوام التالية، يمضى القائمون بالدعاية له فى فرنسا إلى حد مقارنته بنابليون، الذى قد يكون مواصلًا لعمله فى الشرق.
وبالنسبة لجيل الرومانتيكيين الشباب، فإن الشرق السائر فى طريق التمدن إنما يبشر بأمور عظمى، وهو ما يشير إليه فيكتور هيجو فى مقدمة كتابه «شرقيات فى يناير / كانون الثانى ١٨٢٩»: القارة كلها ميالة إلى الشرق. سوف نشهد أمورًا عظمى. وقد لا تكون الهمجية الآسيوية القديمة محرومة من رجال أرقى مما تود حضارتنا أن تتصور. ويجب أن نتذكر أنها هى التى أنتجت العملاق الوحيد الذى يمكن لهذا القرن مقارنته ببونابرت، إن كان يمكن مع ذلك أن يكون لبونابرت قرين؛ فهذا العبقرى، التركى والتترى فى الحقيقة، على باشا هذا، الذى هو بالنسبة إلى نابليون كالنمر بالنسبة إلى الأسد، وكالنسر بالنسبة إلى العقاب.
والشرق الإسلامى يسهم بحصته فى «الرينسانس الشرقى»، الواسع المميز للأدب والفكر الأوروبيين فى العقود التالية لمعركة «ووترلو». والمكون الرئيسى له نابع من اكتشاف القرابة فيما بين اللغات الهندو – أوروبية، والتى يبدو أنها تقدم المفتاح لفهم تاريخ آسيا القديمة، ومن ثم تاريخ أصول أوروبا، كما لو أن الشرق هو «الأصل» بأكثر مما فى أى وقت مضى. وتستعيد نظرية الغزوات قوتها، مع صوغ الأسطورة الآرية، بوصفها [أى الغزوات] محرك التاريخ. ويؤدى اكتشاف نقاء الأصول الهندية إلى طرح وجود الإسلام فى الهند، بوصفه اختراقًا من جانب عنصر غريب حول تاريخها. والحال أن هذا التفسير للتاريخ الهندى، والذى يتجاهل إلى أى مدى اكتسب الإسلام فى الهند طابعًا هنديًا بدرجة عميقة - ولو لمجرد اندراجه فى نظام الفئات المغلقة على نفسها، سوف تستعيده فيما بعد نزعة قومية هندية جذرية ترفض الإسلام بوصفه عدوانًا على النقاء الهندى.
فى أوروبا يصبح تجريد الإسلام من القيمة سمة سائدة. ففى عام ١٨٦٢، يدعو رينان على المكشوف فى درسه الافتتاحى فى الكوليج دوفرانس، إلى القضاء عليه: «يتطور النبوغ الأوروبى بعظمة لا تُقارن؛ أما الإسلام، على العكس من ذلك، فهو يتحلل ببطء؛ وهو ينهار فى أيامنا متصدعًا. والآن، يتمثل الشرط الرئيسى لانتشار التمدن الأوروبى فى القضاء على الشىء السامى بامتياز، أى القضاء على السلطة الثيوقراطية للإسلام، ومن ثم القضاء على الإسلام؛ فالإسلام لا يمكنه الوجود إلا كدين رسمى؛ وعندما سيتم اختزاله إلى حالة الدين الحر والفردى، سوف يهلك. والإسلام ليس فقط دين دولة، إنه دين يقصى الدول، فهو تنظيم قد يتمثل نموذجه الوحيد فى أوروبا فى الدول البابوية. وفى هذا تكمن الحرب الأبدية، الحرب التى لن تتوقف إلا عندما يموت آخر أبناء إسماعيل من البؤس أو عندما يجرى إرهابه للعودة إلى قلب الصحراء.
وللحديث بقية..