تتابع الأكاديمية داميسا موبو الحاصلة على دكتوراه الاقتصاد من جامعة أكسفورد فى كتاب «الغرب من السيطرة إلى التعثر.. خمسون عامًا من الحماقة الاقتصادية والخيارات المستقبلية الحتمية»، والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة، بقولها: وتنفق الدول الصاعدة، العامرة بالمال، أموالها بحرية. فهى ليست مجرد عملية بسيطة للاستئثار بشراء موارد العالم ليصبح ملك السوق العالمية، بل فى نجاحهم فى وضع الدول الغربية فى موقف الخنوع بجعلها أممًا مدنية، وبذلك تصبح تحت إمرة البقية.
تقرض الصين فى الوقت الراهن الولايات المتحدة ٢٣.٤٪ من إجمالى حجم اقتراضها - تبلغ قيمة سندات خزينة الولايات المتحدة نحو ٨٠٠.٥ مليار دولار أمريكى بداء من شهر يوليو عام ٢٠٠٩ - وخلال ذروة الأزمة المالية عام ٢٠٠٨، كما أقرضت روسيا آيسلندا ٤ مليارات جنيه أسترلينى - أى ما يقرب من ٦ مليارات دولار أمريكى - فى العثرة المالية، وأعطت البرازيل مبلغًا قيمته ١٠ مليارات دولار أمريكى لصندوق النقد الدولي. لإشباع شهية الغرب التى على ما يبدو أنها فى حالة نهم دائم للدين، أتقن الصينيون صنع البضائع الغربية، وزودهم بالكثير من المال - فى صورة قروض - لاستخدامها فى شرائها، وهم بذلك حصروا الغرب فى بوتقة الدين والتبعية، الذى سيكون من العسير النجاة منها.
ربما اعتقدت أمريكا أنها ذكية فى فرض رسوم دخول على السلع الصينية فى صورة قروض، إلا أن هذا دلل على قصر النظر، فأمريكا فى النهاية هى التى تغرق فى الدين، ومواطنوها مستنزفون بالاستهلاك. كان من الممكن أن تكون المسألة مختلفة لو أن أمريكا اقترضت داخليا، واستخدمت المال لتصنيع السلع التى ستبقى الأمريكيين - وليس الصينيين - فى العمل. لكنها لم تفعل. فقد تركت أمريكا الصين على الباب، ومثل المثل الشامى الخاص بخيمة العرب والجمل، فإذا بها تجد نفسها فى العراء، والصين فى الداخل.
فقد أصبح منهج البقية فى الآونة الأخيرة عدوانيا واستبداديا للغاية، لذا بدأ الغرب فى الانتقام أينما ومتى استطاع. شهد شهر يونيو عام ٢٠٠٩ بداية التراشق، عندما اتخذت الولايات المتحدة وأوروبا خطوات منسقة ضد الصين؛ لأنها قررت بشكل أحادى الجانب أن تحد من صادراتها من المواد الخام، فحم الكوك، والسيليكون، والزنك.
إذًا، ما الذى أثار غضب الغرب؟ فهو ليس فقط ببساطة الإدراك التام أنه خسر احتكار رأس المال والعمالة والتكنولوجيا التى فى حوزته فى يوم من الأيام، بل أكثر من ذلك، ففى الوقت الذى لم تستهوهم الحرب - فلو لم يكن المنهج الوحشى الذى تبنته البقية لتعضيد زعامتها، فى ضوء نهجهم للعظمة الاقتصادية - جاءت اعتراضاتهم جوفاء إلى حد كبير. وبات أقصى ما يمكن أن تصبو إليه دول الغرب بالنسبة لعالم تحكمه العولمة، أن تصبح واحدة من العديد على طاولة الكبار، ولكن بالنظر إلى مسارها الاقتصادى الحالي، فحتى هذا بات بعيد المنال.
أسرعت الدول المتسابقة الصاعدة التى احتلت المراتب الأولى، فى نقد الوضع الاقتصادى للغرب والمالى الذى بات خطيرا ومهينا، إلا أنه كان مصحوبا بنبرة تشفٍ لا توصف. ففى مؤتمر القمة الاقتصادية العالمى بدافوس فى عام ٢٠٠٩، استمع العالم إلى ممثلى الصين وروسيا، وهما يمطران الغرب بوابل من النقد، وبخاصة أمريكا، لدورها فى إفشال الاقتصاد العالمي، مع الإشارة إلى الانهيار الذى سيلحق بوضع أمريكا الاقتصادى فى المستقبل.
سخر رئيس الوزراء الروسى، فلاديمير بوتين، فى خطاب له من دور الولايات المتحدة فى الكارثة المالية، قائلا: «أود تذكيركم ليس إلا أنه - قبيل عام واحد فقط، ومن هذا المنبر سمعنا كلمات الممثلين الأمريكيين حول الاستقرار الأساسى والأجواء الصافية للاقتصاد الأمريكي، ولكن اليوم، لم يعد الفخر بوول ستريت وبنوك الاستثمار موجودا على الصعيد العملى». ربما تحسبًا لهذه المحاضرة المحرجة والنقدية، لم يكن فى الحضور أى مسئول رسمى لحكومة الولايات المتحدة، وذلك لأول مرة فى تاريخ الذاكرة المعاصرة.
فى منتدى دافوس، طرح فلاديمير بوتين، وجهة النظر التى أكدها رئيس الوزراء الصيني، ون جيا باو، بأن النظام الذى يعتمد على «سعى المؤسسات المالية سعيا أعمى للتوسع المفرط بهدف الربح»، ونموذج التنمية غير المستدامة، الذى اتصف بالادخارات المنخفضة ذات الفترات الطويلة والاستهلاك المرتفع «لم يكن الطريق الأمثل»، وعلى الرغم من حرصه على عدم ذكر أسماء، فمن الواضح أنه كان يشير إلى الولايات المتحدة... وللحديث بقية..