الغرب من السيطرة إلى التعثر هى قصة تظهر كيف شهدت أقوى الأمم اقتصاديا انحسارا وتراجعا فى ثروتها ومكانتها السياسية المهيمنة لدرجة أنهم اليوم على وشك خسارة جميع ما ناضلوا من أجله – الهيمنة العالمية على الصعيد الاقتصادى والعسكرى والسياسى. فتحدد الباحثة والأكاديمية دامبيسا مويو فى كتاب «الغرب من السيطرة إلى التعثر.. خمسون عاما من الحماقة الاقتصادية والخيارات المستقبلية الحتمية» والذى نقله إلى العربية نخبة من المترجمين والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة، لثلاثة أسباب رئيسية وراء تآكل الغرب من ميزاته الجوهرية التآكل التى تتصارع خطاه معه عاما بعد عام.
أولًا: من خلال خيارات سياسية وعسكرية ضيقة الأفق تمكن الغرب (الولايات المتحدة بشكل أساسى) من النجاح فى الانعزال عن نفس الدول الصاعدة التى تنافسها الآن فعلى الرغم من استمرار هذه الدول فى المتاجرة مع نظرائها الغربيين فهذا غالبا ما يتم على مضض مع إحساس خفى لانعدام الثقة المتبادل لذا كان من الطبيعى أن تكون المحصلة النهائية استقطابا بدلا من التحالفات الموثوقة المدعمة ولو لم تكن بدافع الربح ما فعلوا ذلك ؛ ولكن الخطر الحقيقى من أنه سيجىء اليوم الذى لن تضطر فيه الأمم الصاعدة للمتاجرة مع الغرب.
ثانيا: ما يصفه توماس فريدمان بـ «تسطح العالم» أى خفض تكاليف النقل والمواصلات والاتصالات والتصنيع التى جعلت من عملية نقل التكنولوجيا أمرا أكثر يسرا والواقع أن المزايا التكنولوجية والاقتصادية التى يتحلى بها الغرب جعلت هذا ممكنا وباعتبارها نتيجة طبيعية شجعت العالم بأسره على تبنى معايير أفضل الممارسات الخاصة بالتكنولوجيا والإدارة بيد أن هذه المزايا التى كانت فيما مضى حكرا على الغرب بدأت فى التلاشى مع مرور الوقت وبالتأكيد هى آخذة فى التلاشى.
إلا أن السبب الثالث الذى يعد بؤرة تركيز لهذا الكتاب: «الغرب من السيطرة إلى التعثر» هو الذى يرصد بالتفصيل كيف أضاعت أكثر الدول تقدما وتميزا فى العالم على مدار الخمسين عاما الماضية مكانتها المنيعة عن طريق تبنى قائمة مستدامة من السياسات الاقتصادية المعيبة أساسا.
إن هذه القرارات التى اتخذت طوال الفترة السابقة تسببت فى حدوث تأرجح اقتصادى وجيوسياسى، الذى جعل الكفة تميل اليوم لصالح العالم الصاعد لذا لم تحدث تغيرات جذرية فى السياسة خلال العقد القادم فسوف تؤول اليد المهيمنة سريعا لمن يملك، للصين أو الهند أو روسيا لأنه بات يقينا أن الغرب المتقدم صناعيا يواجه تراجعا اقتصاديا وحشيا الآن.
فى شهر سبتمبر عام ٢٠٠٨ شهد العالم عدوانا غير مسبوق على الهيكل المالى الذى عد الغرب من المسلمات على مدى الخمسين عاما الماضية فصدام بعده صدام أوهن النظام وجعل كل يوم يأتى بكارثة جديدة ففى غضون ثلاثة أسابيع فقط أوهن النظام وجعل كل يوم يأتى بكارثة جديدة وفى غضون ثلاثة أسابيع فقط انهار بنك ليمان برازرذ – أحد أعمدة النظام البنكى فى الولايات المتحدة للإقراض العقارى وبات تأمين كبار مقرضى الرهن العقارى (فانى ماى، وفريدى ماك) أمرا حتميا وانهارت وتهاوت المجموعة الدولية الأمريكية – أكبر شركة تأمين فى العالم – وأصبحت حقيقة وجودها موضع شك، (تلقت الشركة مساعدة ضخمة من الحكومة الأمريكية بلغت ٨٥ مليار دولار أمريكى لتشجيعها على الاستمرار فى العمل)، أما عملية إنقاذ عملاقة الصرافة فى بريطانيا لويدز تى إس بى وبنك اسكتلندا الملكى فتجاوزت وتخطت مبلغ ١.٤ تريليون دولار أمريكى (٨٠ مليار جنيه إسترلينى) فى عام ٢٠٠٩، وفى خضم هذه الأحداث أخذت التريليونات فى الهروب من بورصات نيويورك ولندن وريكجافيك وغالبية الأماكن الواقعة بينها معرضة بذلك معاشات ومدخرات ملايين الأشخاص للخطر. ولكن على الرغم من الطبيعة الاستثنائية الكارثية التى اصطبغت بها هذه الأحداث فإن كتاب «الغرب من السيطرة إلى التعثر» ليس بصدد بحث الأسباب والحيثيات المباشرة لهذه الكارثة المالية المباغتة والمدمرة لكنه لا مجال للإنكار أن هذا الانهيار قد اجتاح العالم ولكن على شاكلة التسونامى تماما الذى يضرب فجأة دون سابق إنذار مخلفا الموت والدمار على أثره؛ لذا كانت أحداث عام ٢٠٠٨ م نتيجة حتمية للتصدعات الأرضية والتحول فى حركة الألواح التكتونية الاقتصادية التى كانت كامنة مستترة تحت المياه المالية بدت هادئة، والتى أبحرت عليها سفن الاقتصاديات الغربية بسلاسة حتى منتصف القرن الماضى. ومع ذلك لو أن هذه الأخطاء الاقتصادية قد كشف عنها وعولجت، ربما ما وقعت الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ أبدًا، بالتأكيد لم تكن لتحدث بهذه الدرجة وبهذه الحدة التى حدثت بها. فالانهيار كان نقطة الذروة فى قائمة الأغلاط السياسية والأخطاء التى أخذت تتجمع شيئا فشيئا على مدار الخمسين عاما الماضية، إلى أن انفجرت وتمخض عنها أسوأ أزمة مالية منذ الكساد الكبير، وكأنها عميت عن الأسباب الحقيقية لهذا الزلزال المدوى الذى ضرب عام ٢٠٠٨، والآن وضع كثير من الحكومات هذه السياسات المعيبة فى موقعها الصحيح. وللحديث بقية.