يعد المفكر الاستراتيجى جوزيف ناى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد الأمريكية، واحدا من أشهر المفكرين الاستراتيجيين بالولايات المتحدة، فهو يجمع بين الخلفية الأكاديمية والخبرة والعمل الدبلوماسى وعمل مساعدا لوزير الدفاع للأمن الدولى.
يطرح فى كتاب «مستقبل القوة» الذى نقلة إلى العربية أحمد عبدالحميد نافع، ومن إصدارات المركز القومى للترجمة، لواقع ومستقبل القوة الأمريكية فى القرن الحادى والعشرين.
لقد زعم احد الخبراء أن نقطة الذروة بالنسبة لتطور القوة الأمريكية كانت فى عام ٢٠٠٠، ففى استطلاع للرأى أجراه مركز أبحاث فى عام ٢٠٠٩ أظهرت الأغلبية أو التعددية فى ثلاث عشرة دولة من بين خمس وعشرين دولة، أن الصين ستحل محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة الكبرى الرائدة فى العالم.
وحتى مجلس المخابرات القومى التابع للحكومة الأمريكية، قد اعتبر أن الهيمنة الأمريكية سوف «تتضاءل كثيرا» بحلول عام ٢٠٢٥، وذكر الرئيس الروسى ديمترى ميدفيديف أن الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ مؤشر على أن القيادة الأمريكية للعالم تقارب نهايتها، وزعم مراقب متعاطف وهو مايكل إينياتييف زعيم المعارضة الكندية أنه يجب على كندا أن تنظر فيما وراء شمال أمريكا، حيث أفل نجم الولايات المتحدة وهيمنتها على العالم.
واليوم تتوزع القوة فى العالم على شكل نموذج يماثل لعبة الشطرنج ثلاثية الأبعاد معقدة، وعلى قمة رقعة الشطرنج توجد القوة العسكرية أحادية القطبية على نحو كبير، والمرجح أن تظل الولايات المتحدة القوة العظمى لبعض الوقت، وفى منتصف رقعة الشطرنج توجد القوة الاقتصادية متعادلة القطبية، وسوف تستمر ما يزيد على عقد حيث الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، هم اللاعبون الأساسيون ومعهم آخرون يحوزون بعض الأهمية.
والاقتصاد الأوروبى أكبر من الاقتصاد الأمريكى، وفى نهاية رقعة الشطرنج يوجد عالم من العلاقات عابرة الحدود على مفترق الحدود خارج سيطرة الحكومات، وتشمل الفاعلين من غير الدول المشاكسين مثل المتعاملين مع البنوك الذين يحولون على نحو إلكترونى مبالغ تفوق معظم ميزانيات الدول، وهذا من طرف، وعلى الطرف الآخر، الإرهابيون الذين ينقلون الأسلحة أو المتلصصون الذين يهددون أمن تجمع وسائل الاتصال، كما تشمل رقعة الشطرنج أيضا تحديات جديدة عابرة للحدود مثل الأوبئة والتغيرات المناخية، وفى آخر رقعة الشطرنج تنتشر القوة بشكل عريض، ولا مجال هنا للحديث عن أحادية القطبية أو تعددية القطبية أو الهيمنة أو غير ذلك من الأكلاشيهات التى يضمنها القادة السياسيون والعلماء فى كلماتهم.
ويحدث حاليا تحولان كبيران للقوة فى هذا القرن، وهما انتقال القوة فيما بين الدول، ثم انتشار القوة بعيدا عن كل الدول إلى الفاعلين من غير الدول، وحتى فى أعقاب الأزمة المالية، تستمر السرعة الطائشة للتغير التكنولوجى لدفع العولمة، ولكن الآثار السياسية ستكون جد مختلفة بالنسبة إلى عالم الدولة الوطنية وعالم الفاعلين من غير الدول، وفى السياسة البيئية سيظل العنصر الأهم هو «عودة آسيا»، ففى عام ١٧٥٠ شكلت آسيا أكثر من نصف سكان العالم وإنتاجه، وبحلول عام ١٩٠٠، وبعد الثورة الصناعية فى أوروبا وأمريكا انكمش نصيب آسيا إلى خمس الناتج العالمى، وبحلول عام ٢٠٥٠ ستكون آسيا على طريق العودة إلى سابق نصيبها التاريخى.
وقد يخلق نهوض القوة فى الصين والهند عدم الاستقرار، ولكنها مشكلة لها سوابقها ويمكننا أن نتعلم من التاريخ، كيف يمكن لسياساتنا أن تؤثر فى النتيجة، فمنذ قرن واحد تعاملت بريطانيا مع نهوض القوة الأمريكية دون وقوع نزاع، ولكن فشل العالم فى التعامل مع نهوض القوة الألمانية أفضى إلى حربين عالميتين كاسحتين.
وفى السياسة العابرة للحدود والتى تمثل قاع رقعة الشطرنج، تقلل ثورة المعلومات بشكل ضخم من تكاليف الاشتغال بالحاسوب والاتصالات، ومنذ أربعين عامًا كانت الاتصالات العالمية الفورية ممكنة ولكنها مكلفة، كما كانت قاصرة على الدول، واتحادات الشركات، واليوم هذا الاتصال فى واقع الأمر فى متناول كل فرد بواسطة الولوج إلى مقهى الإنترنت، وقد تراجعت حواجز الولوج إلى السياسة العالمية، ويزاحم الفاعلون من غير الدول على هذا المسرح، ويتسبب المتلصصون والمجرمون على أماكن أجهزة الاتصالات فى خسائر تقدر بملايين الدولارات للحكومات والأعمال التجارية، ويمكن لأحد الأوبئة التى تنتشر عن طريق الطيور أو المسافرين على الطائرات النفاثة أن يقتل من البشر ما يفوق من قضوا أو هلكوا فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما يمكن للتغيرات المناخية أن تفرض تكاليف باهظة. إن هذه هى السياسة العالمية الجديدة التى لا نملك حيالها إلا خبرة ضئيلة.
وللحديث بقية..