تمثل الانتخابات البرلمانية المرتقبة في العراق، والمقررة في الثاني عشر من مايو المقبل، أحد الاستحقاقات السياسية المهمة للعراقيين، سواء بالنظر إلى أنها أول انتخابات تشهدها البلاد عقب هزيمة تنظيم (داعش) الإرهابي وطرده من المناطق التي كان يسيطر عليها منذ عام 2014، أو على ضوء ما ستفرزه هذه الانتخابات من خريطة برلمانية جديدة سترسم ملامح المشهد السياسي العراقي للسنوات الأربع المقبلة.
ووفقًا للمفوضية العليا للانتخابات في العراق، سيتنافس في هذه الانتخابات نحو سبعة آلاف مرشح، بينهم 2014 امرأة، يمثلون نحو 86 ائتلافا وقائمة انتخابية، للفوز بمقاعد مجلس النواب البالغ عددها 329 مقعدا، من بينها 83 مقعدا مخصصة للنساء، في حين تم تخصيص 9 مقاعد للأقليات ممثلة في المسيحيين (5 مقاعد)، والشبك (مقعد)، والصابئة (مقعد)، والإيزيديين (مقعد)، والأكراد الفيلية الشيعة (مقعد).
ويبلغ عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات المقبلة 24 مليون ناخب من بين 37 مليونا هم سكان العراق، وستجري الانتخابات في 18 دائرة انتخابية تمثل عدد محافظات العراق، وينتخب كل منها 7 إلى 34 نائبًا استنادًا إلى عدد سكان كل محافظة.
ومن أبرز الائتلافات والتحالفات التي تخوض الانتخابات العراقية: النصر والفتح ودولة القانون، وقائمة "سائرون نحو الإصلاح" والتي تمثل الكتلة الشيعية، وقوائم الأحزاب السنية، وأبرزها ائتلاف الوطنية، وقوائم الأحزاب الكردية من خلال عدة أحزاب.
وتظهر ملامح المشهد الانتخابي الراهن في العراق، أن معظم الأحزاب والكتل السياسية العراقية ستخوض الانتخابات، إما مستقلة أو ضمن تحالفات سياسية مختلفة عن تلك التي خاضت بها انتخابات 2014.
وقبل أقل من أسبوعين على موعدها، يبدو العراقيون منقسمين حيال هذه الانتخابات وما إذا كانت ستسهم في إنهاء حالة الانقسام السياسي والاجتماعي التي يعيشها الشارع العراقي، أو أنها ستسفر عن ضخ دماء جديدة في الساحة البرلمانية والسياسية في البلاد، فبينما يستبعد البعض أن تؤدي الانتخابات إلى إحداث تغيير جوهري في تركيبة خريطة التحالفات السياسية القائمة، أو في واقع الانقسام السياسي والمجتمعي الراهن، ولا سيما في ظل ما شهدته الفترة الماضية من سجال واستقطاب سياسي، وخلافات بين القوى الحزبية حيال موعد إجراء تلك الانتخابات، يعلق كثير من العراقيين آمالا عريضة على أن تفرز هذه الانتخابات تركيبة برلمانية جديدة تعزز روح التوافق والتعايش بين مكونات الشعب العراقي، وتؤدي لتدعيم مؤسسات الدولة العراقية ومن ثم تعزيز الاستقرار السياسي والأمني في البلاد.
إلا أنه وبعيدا عن هذا الجدل والانقسام بشأن ما ستفرزه، فإن الانتخابات البرلمانية المرتقبة في العراق تكتسب أهمية كبيرة وربما استثنائية بالنظر إلى مجموعة من العوامل المرتبطة بالتحديات السياسية والأمنية التي تواجه العراق داخليا، وفي ضوء الظرف الإقليمي والدولي الراهن وتأثيراته على المشهد العراقي.
فعلى صعيد الوضع الأمني الداخلي تكتسب هذه الانتخابات أهميتها من كونها أول انتخابات يشهدها العراق عقب هزيمة تنظيم (داعش) الإرهابي، ومن هنا ينظر إليها بوصفها تمهيدا لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب على "داعش" وهزيمته، إذ يراهن العراقيون على أن تتمكن النخبة السياسية والبرلمانية في العراق من البناء على الإنجاز الذي حققه الجيش وقوات الأمن العراقية في هذا الصدد، ولا سيما معالجة أوضاع المناطق التي تضررت من المعارك مع داعش، وتضميد جراح سكان تلك المناطق عبر تعزيز اللحمة الوطنية العراقية وتجاوز الخلافات والانقسامات السياسية والطائفية، والحيلولة دون توفير أي حاضنة اجتماعية لداعش أو غيره من التنظيمات المتطرفة في تلك المناطق.
ومما يزيد من أهمية هذا الأمر أن تنظيم "داعش" وإن كان قد هزم عسكريا، إلا أنه لم ينته وربما لن يختفي تماما من العراق، فقد عاد التنظيم قبل أيام ليطل برأسه مجددا على المشهد السياسي والأمني في العراق عبر بيان هدد فيه باستهداف مراكز الاقتراع خلال العملية الانتخابية المقبلة، وهو ما يفرض تحديا أمنيا صعبا أمام قوات الأمن العراقية لتأمين الانتخابات وحماية الناخبين العراقيين وتمكنيهم من الإدلاء بأصواتهم بسلام.
أما سياسيا فإن الانتخابات البرلمانية في العراق ستجرى في ظل مجموعة من التحديات تتمثل أولها في: استمرار التوتر والتأزم في العلاقة بين الحكومة المركزية العراقية في بغداد وبين حكومة إقليم كردستان نتيجة التداعيات السياسية والعسكرية التي خلفها الاستفتاء الذي شهده الإقليم على الانفصال عن العراق، وما تلا ذلك من إجراءات عسكرية وأمنية من قبل بغداد تمثلت في استعادة الجيش العراقي لمدينة كركوك الغنية بالنفط وغيرها من المناطق المتنازع عليها مع الإقليم من يد قوات البيشمركة الكردية، إلى جانب إجراءت اقتصادية وأمنية أخرى. ورغم محاولات التهدئة واحتواء الأزمة بين بغداد وأربيل خلال الفترة الماضية، فإن الانتخابات تأتي في ظل استمرار الاتهامات المتبادلة بين الجانبين حول عرقلة إجراء حوار مباشر لحل المشكلات العالقة بين الجانبين، فضلا عما شهدته جلسات البرلمان لتحديد موعد هذه الانتخابات من خلافات مع الائتلاف الحاكم، حيث طالب الأكراد ومعهم الأحزاب السنية بتأجيلها مدة ستة أشهر على الأقل لحين عودة مئات الآلاف من النازحين من المدن التي شهدت المعارك مع تنظيم داعش إلى ديارهم وتمكنهم من ممارسة حقهم الانتخابي، وهو مطلب لم يؤخذ به في نهاية الأمر.
أما التحدي الآخر خلال الانتخابات المرتقبة فيتمثل في مدى قدرة الطبقة السياسية العراقية الحالية على تجاوز خلافاتها وحالة التشظي التي تعيشها من ناحية، ونجاحها في تجديد دمائها والدفع بوجوه جديدة إلى البرلمان القادم من ناحية أخرى، خصوصا أن قطاعا واسعا من العراقيين فقَد الثقة في كثير من الوجوه البرلمانية الحالية، والتي يرون أنها لم تف بوعودها الانتخابية ولم تكن عند توقعات الشارع العراقي.
ورغم بقاء مكونات المشهد السياسي والحزبي كما هي ديمغرافيا وجغرافيا، ممثلة في ثلاث كتل رئيسية (الشيعية والسنة والكردية)، إلا أن الجديد هو حالة التشظي والتفكك داخل الأحزاب المكونة لهذه الكتل نفسها، وما جرى من تحولات وتغييرات في خريطة التحالفات السياسية والحزبية خلال الفترة الماضية التي شهدت قيام تحالفات سياسية جديدة على انقاض ما كان قائما، وهو أمر سينعكس بالتأكيد على المشهد الانتخابي المقبل.
وشهدت مكونات الكتلة الشيعية الثلاثة الرئيسية ممثلة في: حزب الدعوة، وائتلاف دولة القانون، والتيار الصدري، انقسامات وتغييرات سواء في داخلها أو في تحالفاتها بشأن الانتخابات القادمة، وهي تغييرات بدت في رأي المراقبين مرتبطة باستحقاقات ما بعد النصر على "داعش".
أما الكتلة السنية، التي تخوض الانتخابات بأكثر من 50 حزبا وتكتلا انتخابيا، فإنها تعيش وضعا أكثر صعوبة حيث تعاني حالة من التشرذم بين مكوناتها وهو وضع تفاقم بعد تحرير مناطق غرب العراق من "داعش"، فهذه المناطق تمثل القواعد الانتخابية التقليدية للاحزاب والقوى السنية، ولعل هذا ما يفسر رغبتها الملحة في تأجيل الانتخابات لمدة ستة أشهر لحين عودة سكان تلك المناطق إليها وقدرتهم على المشاركة في الانتخابات.
ويعتبر "ائتلاف الوطنية " بزعامة الدكتور إياد علاوي نائب رئيس الجمهورية والذي يضم يضم نحو 30 تكتلا، أبرز مكونات هذه الكتلة، ومن أهم الشخصيات المنضمة إلى هذا الائتلاف رئيس مجلس النواب الحالي سليم الجبوري، وصالح المطلق رئيس القائمة العربية، وفصائل "الحشد السني المسلحة" التي شاركت المعارك ضد "داعش " وتحول بعضها إلى كتل سياسية تدخل الانتخابات بقوائم مستقلة.
أما التحالف الكردستاني الذي كانت تنضوي تحت لوائه كل القوى السياسية والحزبية في إقليم كردستان، فقد تعرّض لضربة قاصمة عقب الاستفتاء حول استقلال الإقليم وما خلفه من تداعيات سياسية وعسكرية، حيث انفرط عقد هذا التحالف عمليا، إذ لم يعد قائما بشكله القديم بعد أن انسحبت منه أغلب مكوناته، ولا سيما بعد إعلان مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي اعتزاله العمل السياسي، وبعد وفاة الرئيس جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني.
وفي ضوء ما سبق يبدو من الصعوبة بمكانٍ الجزمُ بما ستسفر عن الانتخابات البرلمانية المقبلة من نتائج، لكن المحللين والمتابعين للشأن العراقي يتوقعون أن تقود حالة التشرذم والانقسام التي تعيشها الساحة السياسية العراقية إلى برلمان لا تحظي فيه أي من القوائم الانتخابية الرئيسية بالأغلبية، وقد يكون هناك تقارب بين عدد مقاعد هذه القوائم، الأمر الذي سيفرض عليها تقديم تنازلات للأطراف الأخرى سواء من أجل التحالف لتشكيل الحكومة، أو التعايش السياسي فيما بينها.