رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأسطورة والتحليل النفسي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تعد الأسطورة مجرد قصة تروى وتشير إلى مغزى غالبًا ما يكون أخلاقيًا، وإنما بدأت تتخطى حدود هذه النظرة البسيطة المباشرة لتتحول إلى مؤشر حضارى يتعامل مع الوجود الإنسانى فى انتشاره مكانيًا واستمراره زمانيًا. والأسطورة إذا توقفت عند حدود القصة المباشرة التى ترويها تحولت إلى أداة تسلية عابرة تفقد الباعث الأساسى على الاهتمام بها والإبقاء عليها عن طريق التسجيل أو الرواية من جيل لآخر (وهذا أمر حرصت عليه المجتمعات القديمة كل الحرص، ويشهد على ذلك الواقع التاريخي). ومن هنا ارتبطت الأسطورة بالتطور العام للعقل والحضارة الإنسانية عمومًا. والأسطورة بوصفها نتاجًا للخيال والذكاء البشري، من الصعب أن تظل أسيرة إطار جامد، ولكنها تغيرت واختلفت النظرة إليها باختلاف ما حصله الإنسان من معارف فى الزمان والمكان. لذلك فهى تغطى كل مساحة النفس التى اكتشفها علم النفس الحديث، ومن ثم فهى بمثابة خط حياة وقدر مرسوم. وتمثل الأسطورة تطور هذه النفس وكل الصراعات الداخلية التى تعتلج فيها، مما يجعلها أصلح ما تكون كموضوع درامى أصيل.
وفى إطار ذلك، اتجه المحللون النفسيون – وعلى رأسهم «فرويد» – لدراسة الأسطورة دراسة علمية تجريبية، فلم تعد مجرد واقعة منعزلة، بل تم الربط بينها وبين ظواهر معروفة يمكن دراستها دراسة علمية. وتعامل معها «فرويد» معاملة الطبيب لمرضاه (بوصفها ظاهرة مرضية يمكن اكتشاف عللها) من منطلق إيمانه بوجود تماثل بين حياة البدائيين النفسية والمصابين بأمراض نفسية. وكان مقتنعًا – كل الاقتناع – بضرورة البحث عن المفتاح الوحيد للأسطورة فى الحياة الانفعالية للإنسان فحسب، والتى تتعلق بالمظاهر الحركية والميول والرغبات؛ وتعتمد على غريزة أساسية لا يمكن دفعها. لذلك رأى أن ما يتطلبه البحث هو تحديد طبيعتها وخصائصها. لكن «فرويد» لم يعتقد فى إمكانية إرجاع كل الانفعالات إلى علل كيميائية وفسيولوجية، بل رأى مواصلة وصف الظواهر الآلية للانفعالات بأنها ظواهر نفسية؛ مع مراعاة عدم الخلط بين الحياة النفسية والحياة الواعية. فالوعى مجرد جزء صغير من الحياة النفسية، وهو لا يستطيع كشف ماهية هذه الحياة؛ بل قد يخفيها ويحجبها. لذلك، فإن الرجوع إلى اللا وعى يعد خطوة أساسية لمناقشة مسألة الأسطورة ودورها فى حياة الإنسان النفسية.
هنا فتح «فرويد» بابًا واسعًا لم يغلق أمام التفسير النفسى للأسطورة، وتابع الرحلة بعده تلاميذه وناقدوه من أمثال «كارل يونج» الذى رأى أن كل المحاولات التى بذلت لتفسير الأسطورة، لم تسهم فى فهمها، بل – على العكس – زادت فى الابتـعاد عن جوهـرها وزادت من حيرتنا نحوها. وهو يتابع «فرويد» فى النظر إلى الأسطورة بوصفها نتاجا «للاشعور»، لكنه يختلف معه عندما يقرر أن «اللاشعور» – الذى تنتج عنه الأسطورة – هو «اللاشعور الجمعي» الذى يحوى التجارب والأفكار الموروثة من الأجيال السابقة، ويمثل طرائق التفكير البدائى للعقل الإنساني.
درس فرويد «النفس الإنسانية» دراسة علمية، قضى فيها سنوات يعالج المرضى ويجاهد فى سبيل الكشف عن أعماق النفس وما تنطوى عليه من أخيلة وأفكار. ورأى أن الشرط الأساسى لكى يفهم الإنسان غيره من الناس فهمًا صحيحًا، هو أن يبدأ بفهم نفسه ويزيل الستار الذى يحول دون إدراك النفس وكشف كنهها. لذلك عقد العزم على أن يجرى على النفس تحليلًا منهجيًا متخذًا من «الأحلام» مادة هذا التحليل. ذلك لأن الحلم – فى رأيه – ليس أمرًا مستقلًا عن سائر أحوال النفس، بل هو يتصل بها أوثق الاتصال ويكون حلقة من حلقات الحياة النفسية. وتكمن خطورته فى أنه يعبر عن أمور لا يسعنا حتى مجرد الشعور بها أثناء اليقظة، فهو يُظهر ما عفا عليه الزمان من الأحداث والخبرات الأولى ويبعثها أمام ناظرنا، فتتضح لنا الصلة بين ماضى الفرد وحاضره، ويستبين ما كان قد استغلق علينا فهمه من أحوال الإنسان. لذلك وصفه «فرويد» بأنه الطريق الأمثل إلى أعماق النفس.
رفع «فرويد» «الحلم» إلى مستوى البحث العلمي، حيث كان – فيما مضى – امتيازا للعرافين والمنجمين والمشعوذين؛ وكان يحظى بأهمية كبيرة فى التنبؤ بالمستقبل. لكن العلم الحديث أعرض عن هذا التفسير وأسلمه للخرافة، معلنًا أن الأحلام مجرد عمليات جسمية أو نوع من التشنج يطرأ على الذهن فى حالة النوم، كما اعتبرها أعراضًا عصابية لم تُفسر وأفكارًا هذائية أو وسواسية تتخذ من الصور المنفصلة التى تتكون منها موضوعات لتداعى الخواطر. وجاء التحليل النفسى ووصل إلى نتيجة مغايرة – إلى حد ما – أدت إلى اكتشاف التركيب الذهنى للحالم، ورأى أن الأفكار الكامنة فى الحلم هى المادة اللاشعورية التى وجدت فى النوم فرصة للوصول إلى الشعور. أما الأفكار الظاهرة فيه فهى ترجمة غير مفهومة تقوم بها الأنا بقصد وقاية النفس مما تثيره مادة اللاشعور من قلق وألم. هنا حاول «فرويد» الإجابة عن عدة تساؤلات منها: هل ثمة دافع لتكوين الأحلام؟ ما الشروط التى تحدثها؟ ما الطرق التى تحولت بها خواطر الحلم (التى تزخر دائمًا بالمعنى) إلى حلم (هو فى أغلب الأحيان لا معنى له)؟
إن الأحلام – كما رأى «فرويد» – التى يعرفها كل إنسان، قد تكون مشوشة غير مفهومة ولا معنى لها إطلاقًا، وقد يكون مضمونها مناقضًا للواقع الذى نعرفه؛ وقد نتصرف فيها كما يتصرف المجنون أو الرجل البدائى أو الطفل الصغير. وذلك لأننا نقوم فى الحلم بخلع صفة الحقيقة الواقعية على مادة أحلامنا، ويمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الحلم الذى نتذكره بعد اليقظة ليس هو عملية الحلم الحقيقية؛ لكنه ستار تختفى وراءه تلك العملية. لذلك ميز «فرويد» بين مادة الحلم الظاهرة، وأفكار الحلم الكامنة، وعرَّف العملية التى تخرج مادة الحلم الظاهرة من أفكار الحلم الكامنة بـ «عمل الحلم» الذى هو – فى جوهره – صياغة للعمليات الفكرية اللاشعورية.
لكن ما علاقة الحلم بالأسطورة؟
هناك تشابه فى آلية العمل بين الحلم والأسطورة، وتشابه الرموز لكليهما؛ فهما نتاج العمليات النفسية اللاشعورية. ففى الأسطورة – كما فى الحلم– نجد الأحداث تقع خارج حدود الزمان والمكان، والبطل (كذلك صاحب الحلم) يخضع لتحولات سحرية ويقوم بأفعال خارقة، هى انعكاس لرغبات وأمانٍ مكبوتة، تنطلق من عقالها؛ بعيدًا عن رقابة العقل الواعى الذى يمارس دور الحارس على بوابة اللاشعور. وبعض العناصر فى الأحلام تحتفظ بمعناها الدائم، وتئول كرموز ذات معانً ثابتة تزودنا بفهم عميق لنفس الإنسان الخافية ورغباته المكبوتة. وهذه الرموز ليست مقصورة على الأحلام، بل هى موجودة فى الأساطير والأدب الشعبى والدين والفن وفى عدد كبير من المجالات.
وفى هذا الإطار يقول «فرويد»: «إن مفهوم الرمز ليس خاصية من خواص الأحلام، بل من خواص التفكير اللاشعوري، ونجدها فى أغانى الشعب وأساطيره ورواياته المتوارثة، وفى التعبيرات الدارجة والحكم المأثورة والنكات الجارية أكثر مما نجدها فى الحلم». إذن، يستخدم الحلم الرموز الموجودة – من قبل – فى التفكير اللاشعوري، وهو يستخدمها لأنها تفلت عادة من رقابة العقل الواعي.