يتابع الدكتور محمد رفعت باشا فى كتاب يقظة مصر الحديثة بقولة: عندما بدأت الخطط العدوانية لمحمد على ضد الإمبراطورية العثمانية تجذب الاهتمام الجدي لعالم الدبلوماسية فإن المقترحات الهادفة إلى تحويل انتباه محمد على عن الطريق الخطر كانت كثيرة.
فقد قال السفير البريطاني فى فيينا اللورد بوفال فى برقية إلى المعتمد البريطاني فى القاهرة: «إذا كان هدف محمد على حقا هو ترسيخ وضع أسرته فإن ذلك فى أفريقيا ممكن فهناك سيجد أوروبا كلها ودية معه بل ويمكن أن يتلقى ضمانًا بألا يخشى أي هجوم عليه». ولا شك أن نصيحة السفير كانت طبيعية أو مخلصة ولو ركز محمد على جهوده فى اكتشاف وادي النيل حتى منابعه والاستيلاء على الأراضي الواسعة التي يمر بها النيل لكان ذلك خيرًا لمصر بدلًا من محاربة تركيا والسيطرة على فلسطين وسوريا. ومن ناحية أخرى فإن ضغطه العسكري على تركيا قد ضمن له إذعان السلطان للكثير من آماله الطموحة.
وعلى أية حال، ما كان ممكنًا فى مصر أن تقاوم فكرة تأمين مصالحها الحيوية فى وادى النيل وربما يفسر ذلك جزئيًا بأن محمد على أرسل حملته للسودان عام ١٨٢٠. ذلك أن محمد على كان يتمثل قدوته دائمًا فى نابليون فزود حملته بالعلماء وخبراء أوروبيين فى مجال المعادن وهو إجراء طبقه حفيده إسماعيل بعد ذلك. إن جهوده فى المحافظة على وحدة مصر والسودان وتحمسه فى اكتشاف الأجزاء غير المعروفة فيه ورفاهية شعبه أكدتها زيارته التاريخية إلى السودان فى أكتوبر ١٨٣٨ عندما كان يقترب من السبعين من عمره. وعندما وصل إلى سنار قام بتحية جميع المشايخ والوجهاء فى الحى المجاور، وبعد أن قدم لهم الثياب التى صنعت خصيصًا لهم خاطبهم قائلًا: «نعلم أن شعوب البلاد الأخرى كانوا فى البداية متوحشين ثم أصبحوا متحضرين وأنتم تملكون العقول والأيدي مثلهم فافعلوا كما فعلوا وسوف ترتقون بأنفسكم إلى مرتبة الرجال المعمرين البناة وسوف تحصلون على الثروات وتستمتعون بالحياة التي لم ترونها من قبل بسبب جهلكم. لا ينقصكم شيء فلديكم الأراضي الشاسعة ولديكم الحيوانات الوفيرة ولديكم الصمغ والخشب والعديد من السكان ورجالكم أقوياء ونساؤكم يتمتعون بالخصوبة لا ينقصكم إلا قائد وأنا قائدكم وسوف أقودكم إلى الحضارة والسعادة.
فالعالم ينقسم إلى خمسة أجزاء كبيرة هي الجزء الذي تنتمون إليه ويسمى أفريقيا وبقية الأجزاء الأخرى عدا قارتكم يعرف الناس قيمة العمل وهم يعطون أنفسهم الحماس بالزراعة والصناعة والتجارة لأن هذه جميعًا تؤدى إلى الثروة والسعادة والمجد وهى كلمات لا معنى لها بالنسبة لكم فبلادكم عمليًا لا تنتج شيئًا لأن الناس كسالى وهم كالأموات. اعلموا هذا الدرس جيدًا وهو أن العمل سوف يعطى كل شيء وبدونه لا يمكنكم الحصول على شيء». وكان الجمهور فى البداية مندهشًا مرتبكًا من هذه الكلمات، ثم بدأوا يتصايحون مطالبين بأن يذهبوا إلى مصر ليتعلموا الفنون التي أشار الباشا إليها. فقال لهم محمد على: «جميل جدًا ولكن الأفضل لكم أن ترسلوا أبناءكم لأنهم أفضل فى القدرة على التكيف وخدمة بلادكم لمدة أطول ولا تقلقوا عليهم فسوف يكونون تحت رعايتي وعندما يكملون دراساتهم سأعيدهم ثانية لكم ليغمركم الشرف والسعادة والمجد».
وقد خطط محمد على خلال هذه الزيارة للبعثات الجغرافية الشهيرة بقيادة ضابط البحرية الكابتن سليم عام ١٨٣٩، ١٨٤٠، ١٨٤١ واصطحب الكابتن سليم معه بعض مئات من الجند مزودين بثمانية قوارب مسلحة. وأبحرت البعثة الأولى عبر النيل الأبيض ووصلت جنوبًا إلى غوند كورو التي تقع خمس درجات طول شمال خط الاستواء. وفى البعثتين التاليتين لم يذهب الكابتن سليم أبعد من ذلك جنوبًا بسبب مخاطر الملاحة.
وفى هذه المناسبات اصطحب معه الأجهزة الملاحية والأرصاد وسجل ملاحظاته بعناية. أما الخبراء الأوروبيون الذين رافقوه فقد أجروا الأبحاث فى الظروف الاجتماعية والنباتية والمناخية التي ساروا عبرها، حتى إذا عادت البعثات إلى مصر ونشرت تقاريرها إلى القاهرة وباريس لقيت حماسًا من عالم العلم والعلماء.
ويجب أن نتذكر أن هذه البعثات قد وصلت قبل عشرين عامًا من وصول Spek أو grant وأي مكتشف مشهور آخر للقارة السوداء وبداية بحثهم عن منابع النيل. ولكن لسوء الحظ لم يعش محمد على طويلًا لكي يدرك هدفه من الوصول إلى منابع النيل. أما خلفاؤه المباشرون فقد فقدوا الاهتمام بذلك ولم يتم إحراز التقدم فى السودان والذي أصبح محطة مهملة ينفى إليها المغضوب عليهم.
أما سعيد باشا الذي زار السودان عام ١٨٥٦ فقد حاول أن يصلح الأمور، ولكن جهوده كانت مبعثرة. فقد أصبح السودان فى ذلك الوقت مجرد حلية لمصر أكثر من كونه شيئًا آخر. أما الخديو إسماعيل فقد تمثل هذه الفكرة الكبرى لإمبراطورية مصرية فى قلب أفريقيا، وبدأ إسماعيل بتحديد الدول الأوروبية التي تؤيده وفى ذلك نجح فى الاستفادة من كلمتين تتمتعان بشعبية كبيرة فى ذلك الوقت هما الكشوف الجغرافية ومناهضة الرق.