في إحدى جولاته بمحافظات الصعيد مستقلا القطار، يقف قائد القطار في كل محطة ليلوح جمال عبد الناصر بيديه للواقفين على المحطة، وفي إحدى المحطات أراد أحد عمال الترحيلة أن يخاطب ناصر ولكنة فشل، فألقى منديله على الرئيس فتلقفه، بينما أصاب حراسة الهلع خوفا من أن يكون مفخخا.
فتح الرئيس المنديل ليجد بداخله "بصلة ورغيف عيش بتاو".
الجميع استغرب، بينما عبد الناصر فهم أنها رسالة لضيق اليد وشظف العيش والحرمان من الحقوق، حيث كان البتاو والبصل هما طعام العمال طوال فترة الترحيلة الذي لا يكفي.
فابتسم وقال للعامل بعدما أطل برأسه والقطار يتحرك "الرسالة وصلت يا بويا " بعدها أمر عبد الناصر بتطبيق زيادة عادلة في أجورهم وتحسين أحوالهم ، لتلك الفئة من العمال التي لا تستقر في مكان ، وتسافر من مكان لآخر للقيام بعمل قصير الأجل أو موسمي كالفلاحين أو عمَّال البناء.
وبعد أكثر من 60 عاما من الإهمال واعتبارهم مواطنين بدرجة خامسة وسادسة ، أصدر الرئيس السيسي كمبيالة بشيك على بياض لتأمين حياتهم ، وأوجب على الحكومة سدادها بإنشاء نظام تأمين على الحياة للعمالة الحرة بالقطاع الخاص ، للفئة العمرية من ١٨ إلى ٥٩ سنة ، وبدون كشف طبي ، على أن يتم إطلاق التأمين الجديد في أقرب وقت.
قرار الرئيس هو تعويض إجتماعي وقانوني وإنساني وضربة قاسية لمستغليهم ، فهذا التوجيه يقضي علي أخطر جريمة أرتكبت في حق الإنسانية ، لمجموعة تقدر بالملايين ، حُكم عليهم بإبادة جماعية ليست بالقتل بل بالجوع والحرمان والسُخرة والإذلال لتقلبات زيادة الأسعار وقرارات الحكومة الاقتصادية الإصلاحية التي لم تجد دُونها مَفر.
فتح السيسي خزائن مسئوليته، وأخرج دفعة جديدة من ملفات التضامن الاجتماعي والأمان الاقتصادي لفئة نعلم جميعا أنها قوة منتجة ومحرومة ، عانت كثيرا من التجاهل منذ سُخرتهم في حفر قناة السويس وعزب الإقطاعيين وحتى الآن، فنحسبهم أحياءً لكنهم موتى بلا قبور ولا أكفان.
إن حياة الشغيلة هي حياة شاقة ، وليس نادرا أن يقتاتون أوراق الأشجار أو ما يقع تحت أيديهم ـ فلا تنظر إلى العمالة "الكسيبة" ، فهناك عمال بالملايين يضطرهم ضيق يدهم إما لمرض أو شيخوخة أوعجز كلي أو جزئي، لأكل بعض الأعشاب والنباتات الشيطانية كالسريس والسلق والجُعديض، لتساوي في بعض الأحيان حياة الحمير والماعز والخنازير التي تعيش على القاذورات – وأسف للتعبير- رغم أن عمال الترحيلة يحتاجون إلى غذاء مضاعف ومتنوع لقسوة ظروف مهامهم .
لذلك فإن البناء الجسماني لبعضهم يتعرض للهدم ، وترى شبابهم وقد كسته الشيخوخة المبكرة ، ومنهم من عاش ومات بالإفقار المطلق ، ملابسهم لا تبارح جسدهم طول السنة لذلك فهم معمل تفريغ للقمل والبراغيث بغير حساب ، ولك دليل في الشقق التي يستأجرونها بعد رحيلهم ، فيحتاج مالك الشقة إلى الاستعانة بشركة لإبادة الحشرات لمطاردة مُخلفاتهم ! دون أن يكون لهم ذنب ! سوى أن حالهم معلق في رقبة الحكومات المتعاقبة.
قرار السيسي جعلنا نُفْرِك أيدينا بسعادة، لكن سيبقى التصفيق معلقًا حتى تُنجز الحكومة توجيهاته، لنصفق بحرارة إذا ما منحوهم شهادة دخول الحياة ، بضمان اجتماعي وتأمينات وخدمات صحية وتموينية وتعليمية.