حديثى عن الصداقة فى هذا المقال ليس حديثًا إنشائيًّا، وليس مجرد كلمات تُقال فى موضوع كثُر فيه الكلام، إنما هو حديث أردتُ به لفت الانتباه إلى موضوع يلقى كثيرًا من الأهمية، خاصة فى ظل كثرة الأصدقاء المزيَّفين، وأصدقاء المنفعة؛ فاختيار الصديق الذى يُعينك على نوائب الدهر، ويكون بجانبك وقت الشدة والضِّيق، ليس أمرًا سهلًا.. وعلى حد تعبير الأديب مصطفى صادق الرافعى؛ فإن الصديق هو الذى إذا حضر رأيتَ كيف تظهر لك نفسُك لتتأمل فيها، وإذا غاب أحسستَ أن جزءًا منك ليس فيك.
وقد ميّز أرسطو بين أنواع ثلاثة من الصداقة؛ أولها: صداقة المنفعة، وهى التى تكون مقابل فائدة معينة، فإذا ما حصل الصديق على هذا المقابل، انتهت تلك الصداقة المزعومة الزائفة.. وثانيها: صداقة المتعة، وهى التى تظهر فقط فى أوقات البهجة والمتعة واللذة، وهذه الصداقة تنشأ سريعًا، ولكنها أيضًا سرعان ما تنقضى بانقضاء المتعة واللذة.
أما ثالثها: فهى صداقة الفضيلة، وهذه هى الصداقة الحقيقية؛ إذ إنها تقوم على تشابه الخصال والفضائل، لا لمصلحة أو لمنفعة؛ فهى عطف وحب متبادل بين شخصين، يريد كل منهما الخير للآخر، تقوم على العشرة الحسنة والمشاركة الوجدانية؛ ولذلك فهى تدوم طويلًا.
فالصديق الحقيقى هو الذى يدعمك ويقف بجانبك حين يتخلى عنك الجميع.. هو الذى يخبرك الحقيقة مهما كانت قاسية، لن يجاملك ولن يكذب عليك؛ لأنه يعلم أن المجاملة لن تفيدك، وأن الكذب لن يساعدك فى حل مشاكلك.. هو الذى لا يسمح لأحد بالتقليل منك فى وجوده، ويدافع عنك فى الوقت الذى لا تستطيع فيه أنت فعل ذلك.. هو الذى يفرح لسعادتك، ولا وقت لديه للشعور بالغيرة من نجاحك؛ لأنه يكون منهمكًا بالاحتفال به معك.
الصديق الحقيقى ليس بحاجة إلى أن يكون بالقرب منك كى يظل وفيًّا؛ لأنه كما تراه فى حضورك يكون هو نفسه فى غيابك.. هو الذى لا يقلل من أهمية إنجازاتك؛ كى يتباهى بنجاحه هو على حسابك.. هو الذى تجده جاهزًا للمساندة والمساعدة فى أى وقت، مهما تباعدت بينكما المسافات، ومهما طال بكما الوقت دون أن تلتقيا أو تتحدثا.. هذه هى الصداقة الحقيقية التى لا تعرف حواجز، أو تتقيد بحدود، أو تُعلق على شروط.
وعلى الصديق أن يعفو عن صديقه ويصفح إذا صدرت منه زلّة، وأن يلتمس له الأعذار ويفترض فيه حسن النية، ورحم الله إنسانًا تغافل من أجل بقاء الود، وقديمًا قال الشاعر: (إذا الصديق أسئ عليك بجهله.. فاصفح لأجل الود ليس لأجله).. ولا تعاتب صديقك على كل شىء، فكثرة العتاب تُولِّد الجفاء.. إننا لسنا ملائكة، ولا يوجد إنسان بلا عيوب.
ولا أبالغ حين أقول: إن علاقة الصداقة علاقة مقدسة، بل أنبل العلاقات الإنسانية وأرقاها، وسر جميل من أسرار هذه الحياة؛ لأنها تعكس صدق المشاعر الإنسانية الصافية، التى تؤمن بأن الإنسان لا يمكن أن يعيش وحيدًا دون أن يكون له صديق يشاركه تفاصيل حياته، فسلام على الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق، صادق الوعد منصفًا.
وفى الصداقة يصبح كل طرف بمثابة الملاذ الآمن للآخَر، يصبح الصديق كبئر عميق يضرب بجذوره فى أعماق الأرض، فيكون الصديق بئرًا لأحزان صديقه وهمومه، كاتمًا لأسراره وعيوبه، وكلما زاد عمق البئر ازدادت العلاقة صلابة وراحة.. ولكن الخوف كل الخوف، من أن يزداد العمق ويمتد إلى الحد الذى يُخرق فيه البئر، فيصبح عميقًا طويلًا بلا فائدة، يصبح بئرًا مجوَّفًا فارغًا، كلما وضعت شيئًا من أعلاه سقط من أسفله!!