تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
رئيس التحرير والصندوق الأسود
هي المهنة التي أنتمي إليها ، يِبْعِد عنك غضبها ، قاسية في حكمها ، قارصة في تناولها ، تجلب التعب والتعاسة مرات والسعادة مرة ، مهنة إذا خاصمت فجرت ، وإذا عاركتك إنحدرت بك إلي زاوية النسيان ، وإذا شاكستك مالت بك إلي الإنزواء والإنطفاء رويدا رويدا ، وإذا إختلفت معك فجّرتك ، لتصبح أشلاءا ، لا تمكن لملمتك لتعود جثمانا ولا يمكن دفنك حيث لا توجد جثة ، مهنه أندالها أكثر من أوفيائها ، مهنة دق الأسافين والخناجر المسمومة لتركيعك أمام حاسديك أو معارضيك .
في بلاط صاحبة الجلالة ، أفضالك ومناقبك تبوح بها الأنفاس والأنفس ، وإذا ما تركتها " أي السلطة " تلاحقك اللعنات والأزمات ، ليس من عدوك فحسب بل ممن كان يتمسح بإلتقاط صورة معك ، وربما تطولك نيران صديقة من حاشيتك .
وأنت علي "الكرسي" يُحيطونك بسياج عائلي وكأنك الأب الروحي ، واذا ما تلمست أرجلك الرحيل يَنْفَضُون بكل ندالة تاركوك في عزلة الصحراء القاحلة ، مهنة تُنشد أبيات شعرية مدحا لرئيس التحرير ، وإذا حمل لقب سابق تحولوا إلي معلقات هجاء وذم .
في مهنة البحث عن المتاعب ، صولجان السلطة ينسينا الإنسانية والزمالة ، المصلحة والأنانية تعلو الشهامة والصداقة ، الطعن في الظهر عنوان ، والكلام في "الوش" والمنافسة الشريفة في خبر كان ، في السلطة مكتبك دوّار لإستقبال المتملق والمتمسح والمُداهن والمُوارب والمُتَزَلِّف والتلميذ والصديق والعدو ، ثم تفاجأ ببعضهم يلقون مولوتوف الخيانة والغدر عندما يجلس أخر في دوارك .
مع رحيل المنصب أهلا بالسب والقذف واللوم والعتاب ، مرحبا بالقضايا التي ترفع حتي تقضي ما تبقي من حياتك قابعا خلف القضبان الحديدية ، أهلا بنهش السمعة وطعن الذمم وربما النسب ، كان خليفتك – الجالس علي الكرسي بعدك- ينشد المعزوفات الموسيقية وربما يمسك الصاجات والطبلة إحتفالا بقدومك أو قراراتك أو إنجازاتك ، ثم بعد رحيلك يكون أول من ينسف قراراتك ويتأسف علي قدومك ويمحو كل إنجازاتك ، بعد الرحيل يقذفك عدوك بحجر، وصديقك الندل يرميك برمح ، وثالث يُنَشّن عليك بسهامه .
لم يطاوعني قلمي من قبل أن أكتب هذا عن مهنتي ، أو أفجر المعلومات الملتهبة في صندوقها الأسود ، لكن اليوم لدي طاقة تدميرية من الإنشطار المهني حان وقت نزع فتيل قنبلتها ، بعدما طال الكاتب الصحفي الكبير والنقيب الأسبق ورئيس تحرير ومجلس إدارة الأهرام إبراهيم نافع - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - كل أنواع الخسة والندالة في حياته ، خاصة في الفترة التي أعقبت خروجه من المنصب والتي وصلت لذروتها بعد ثورة يناير ، حيث إتهامه في القضية المعروفة إعلاميا ب " هدايا الأهرام" ، وبعد مماته إفتكروا مواقفه وإنجازاته .
وكأن غشاوة علي الأعين ظلت حتي فقد الراحل أخر أمانيه بقضاء ما تبقي من حياته علي أرض مصر ، وإنقشعت بقدرة قادر بعد مماته ، فسارع الجميع لإستقبال جثمانه ، والإدلاء بتصريحات صحفية وتوالت المقالات والتقارير المصورة والمكتوبة المتحدثة عن قيمة الرجل مهنيا ونقابيا ، وكأنهم يكفّرون عن تجاهلهم له في حياته المليئة بالإنجازات سواء للأهراميين أو لنقابة الصحفيين وأعضائها .
إنه تكريم ما بعد الموت ، حيث صاحبه كان يتمني عُشره في حياته ، إنه تكريم لروح وقد ذهب الجسد ، وكان صاحبه يأمل في أن يحضر جسدا وروحا ولكن حالت تقلبات وأهواء المهنة بين هذا وأمانيه ، إنه تكريم بطعم العلقم ، بروح الخسارة والحسرة ، بنكهة الملح ، تكريم بلا لون ولا رائحة ، فالأموات لا يعرفون التكريم، ولا يلحظون المكرمِين، فقد دفن في قبره، ولا يمكنه إستيعاب أي نشاط أو أي خطوة، ولا يستطيع أن يدرك أي كرم أو أي تقدير لجهوده وإبداعاته، فالإنسان الراحل بموته لا يدرك أي كلام ولا يستوعب أي موقف .
لماذا التكريم بعد فوات الأوان ؟ إجعلوا إبراهيم نافع أخر ضحايا التكريم ما بعد الموت .