فى «زوجات أبى» يفتح نبيل عمر صندوق باندورا، ويكاشفنا بصفحات كانت تنام تحت شجرة بيت العائلة.
وعبر ١٧٨ صفحة من القطع المتوسط، يقدم الكاتب الصحفى نبيل عمر قطوفـًا من سيرة حياة العائلة ببراعة وصدق، وربما بجرأة نادرة، فى كتابه «زوجات أبى» الصادر عن دار دلتا، نطالع رواية مكتملة الأركان تستمد خيوطها وخطوطها من سيرة حياته وتفاصيل زيجات الأب المتعددة، التى كانت جوهر معاناة عائلة بأكملها.
يقدم نبيل عمر فى هذا العمل ما هو أكثر من سيرة ذاتية، فهو يروى قصص حُب نادرة، وينتقل إلى تفاصيل عالم آخر أثر فى الراوى، من معلمين وصحفيين، وأصدقاء وزملاء، هى تفاصيل تكوينه النفسى وثقافته.
وإذا كانت البطلة فى الكتاب هى الأم «عزيزة خطاب»، التى تصمد كشجرة سنديان وتقاتل من أجل استكمال حياة أبنائها ومعالجة التأثيرات الكارثية لنزوات أب يفتقد المسئولية، فإن نبيل عمر يضع إصبعه على أصل المسألة بلا مداورة.
«كان جدى يؤلمه هاجس سيطر عليه، أن يموت قبل أن يرى ابنه «الحيلة» رجلًا صلبـًا، وظن أن معاملته كرجل تجعله رجلًا، وهو ما زال صبيـًا، فعلّمه عادة التدخين أمامه قبل أن ينبت شاربه، كما أخبرتنى جدتى، وخطب له مرتين وهو ما بين الحادية عشرة والثانية عشرة، ويستجيب دومـًا لطلباته، حتى لو كانت لبن العصفور، فأفسد الصغير، ونقش فى وجدانه أن رغباته أوامر، وأنه مركز الدائرة ومحل السيادة الأول، فكبر يتصرف على هواه وحسب ما اتفق.
«وذات مرة صفع مدرس المدرسة الابن المدلل بالقلم، فاشتاط جدى غضبـًا، وذهب إلى المدرسة وأهان المدرس، وأغلق المدرسة التى كانت تملكها عائلته، ثم أعيد فتحها بعد يومين.
«ومات الأب، وبقى الابن وحيدًا، ثروة تتآكل، ولا شُغلة ولا مَشغلة، فأخذه خاله إلى «سبك الضحاك» ليعمل معه فى التجارة، فكان يجوب القرى بيعـًا وشراء، وفى جولة من جولاته تعرف على أمى وتزوجها، وعاد بها إلى «إبخاص» بضعة أشهر، ثم عاش معها فى شبين الكوم» (ص ٧).
ولك أن تتخيل ما جرى من هذا الأب المزواج، ومفاجآته الصادمة، وفى كل مرة لا ترده الأم، فأين تذهب بالصبيان الأربعة، ثم إنها تحرص على صورة الأب فى عيون أبنائه، وبالرغم من مغامرات الأب الكارثية لا يحمل الابن الراوى حقدًا تجاهه، لكنه لا يمكنه إخفاء مشاعره انحيازًا لأمه وكفاحها بشكل يجعله حريصـًا وهو يقترب منها فى سيرته، وكأنه يحمل لها شعورًا أقرب للتقديس.
ومع حرص الأم على أن تبقى عماد البيت، فى ظل مغامرات الأب، كنت تجد «عزيزة خطاب» تضع رأسها تحت ماء الصنبور لتبريدها من النار المشتعلة تحسبـًا للأيام السوداء التى ستحل بالراوى وإخوته، لأسابيع، أو أشهر، يختفى الأب وتنتقل إلى «كفر مناوهلة»، حتى يعود بهدايا طالبـًا الصفح.
يحكى نبيل عمر جانبـًا من وعى أمه فيقول:
«عند الولادة طلبت أمى من الداية أن تضع «خلاص» الوليد، وهو بقايا القطع الدموية من الولادة، فى علبة صفيح إذا كان صبيـًا، وتغلق عليها بـ«الغطا» وتضعها تحت السرير، وبعد أيام أرسلت إلى قريب لها جاءها من «كفر مناوهلة»، وأخرجت الصندوق الخشبى ووضعت فى يده جنيهين - وهو مبلغ كبير وقتها- وأخرجت له «علبة الصفيح» بالخلاص مغطاة وملفوفة بإحكام بحبل وقماش وقالت له: «تأخد الصندوق وتنزل على مصر وتروح جامعة فؤاد، وتدفن العلبة الصفيح فى سور الجامعة».
«وأخرجت له المصحف وأجبرته على أن يُقسم عليه ثلاث مرات، فأقسم ونفذ الوصية. وجامعة فؤاد الأول هى جامعة القاهرة حاليـًا قبل أن تبدل ثورة يوليو اسمها فى سبتمبر ١٩٥٣.
«فى تلك الليلة روت أمى لى هذه الحكاية العجيبة، فسألتها: ولماذا فعلت ذلك؟!
«قالت: كنت أمد علاقتك بالجامعة «عشان» لما تكبر تدخلها.
«ومن يومها وتلك الأسئلة سكنت عقلى: من أين علمت أمى أن التعليم هو سلم الصعود لابنها، وهى لم تتعلم، ولا واحد فى عائلتها تعلم بالجامعة ولا فى قريتها؟!».
ربما كان النصف الأول من العمل أكثر تعبيرًا عن تشكيل وجدان الراوى، وعندما يواجه الأب صارخـًا ومعاتبـًا يتوقف عن الزواج، لتبدأ رحلة الابن فى تقديم الشخصيات الأكثر تأثيرًا فى حياته.
وتبدو قصة الخالة «منبية» نموذجـًا لقصص الحب غير المروية فى الريف، منبية أحبت عبدالحارث، لكنهما لم يتزوجا بسبب رفض عائلة عبدالحارث، وإجبارهم له على الزواج من أخرى. تتزوج منبية لكنها تنغص حياة زوجها حتى تحصل على الطلاق وتقبل أن تكون زوجة ثانية لعبدالحارث وتتقلب الأحوال حتى تصبح منبية الزوجة الوحيدة.
فى المقابل، فإن قصة سعدية وجابر، يتزوجان عن حب، ولا يحدث إنجاب، وتحت ضغط الأسرة يتزوج جابر لينجب، فتطلب سعدية الطلاق وتنفصل عن جابر وكل منهما يبكى، ينجب جابر تتزوج سعدية وتنجب، وتظل على حُبها لجابر حتى يموت.
فى «زوجات أبى»، حكايات تستحق أن تُروى، وأن تبقى؛ لأنها ثمرة مختلفة المذاق عن السائد والمألوف بإنسانيتها وعذوبتها.. وعذاباتها الأصيلة.
