شهيتي في كتابة هذا المقال وجدتها مفتوحة، وأتوجس خيفة من أن تُسَجّل شهادتي مجروحة، حيث إنني واحد من الذين تشرفوا بالنشأة في هذه القرية "كوم النور" مركز ميت غمر محافظة الدقهلية، وأعترف أن معلميها أصحاب فضل عليّ وعلى الكثيرين الذين اشتهرت أسماؤهم بسببهم، وستبقى هذه القرية في ضميري ووجداني، مع التقدير والعرفان لكل الأساتذة الأفاضل الذين قادوا مسيرة التعليم منذ القرن الماضي داخل القرية لتصنف الأكثر تعليما وتثقيفا، فمنهم من قضي نحبه إلي جوار ربه ونسأل له الرحمة، ومنهم من أطال الله في عمره وندعو لهم بموفور الصحة.
لقد حظيت قريتي باهتمام خلال الأيام القليلة الماضية متصدرة المشهد الإعلامي، من خلال إحدى مدارسها "يحيى الأدغم"، والتي قام تلاميذها بتأدية مشهد تمثيلى للحادث الإرهابى الذى استهدف مسجد الروضة بسيناء، وخلف شهداء ومصابين، وتم تقسيم الطلاب لفريقين ارتدى أحدهما ملابس الإرهابيين، ورفعوا أعلام داعش وتركيا وقطر وإسرائيل، وحملوا أسلحة خشبية وبنادق لعب أطفال، بينما جسد الفريق الثانى مشهد المصلين وإمام المسجد، مما إعتبره البعض جريمة في حق الطفولة البريئة أن ترى الدم ويزج بهم في سن مبكر في القضايا السياسية الخلافية، مما إستدعي إستنكار المحافظ والوزير طارق شوقي، فأحال مديرة المدرسة – إيمان سمري – ومشرفي النشاط المسرحي للتحقيق.
أعقب ذلك عدد من الإعلاميين بزفرات، وانزعاج، وتضايق، واستياء، واستنكار، وشجب، وتنديد، وقلق عارم، ولعن للمدرسة، ولا مانع من لصق تهمة الأخونة على القرية وأساتذتها، وإعلان حداد على موت التعليم، وشتم الأساتذة، ومطالبة وزارة التربية والتعليم بإبعاد هؤلاء الكفرة الفجرة من وظيفتهم، بإعتبار ان الواقعة فيها ترسيخ لمشاهد العنف والإرهاب فى نفوس الأطفال خاصة الذين مثلوا دور الإرهابيين، وأن هذة التمثيلية ستفرخ جيلا غاضبا مثقلا بحمولة اليأس والإحباط.
عزيزاي الوزير والمحافظ: إن منظر الدم الملطخ به ملابس التلاميذ المؤدين لمشاهد الشهداء والمصابين الذي أزعجكم وقلتم أنه مزعج للتلاميذ، هو ميكروكروم وألوان صناعية،أفلا تستوعبان ! وأن منظر الدم الحقيقي هو من بثته وسائل الإعلام بالصوره الحية، فلم نسمع لكم حسا ولا نقدا ولا استهجانا!
عزيزاي: إن إدارة المدرسة بما فعلته تؤدي واجب وطني وقومي ربما تعكف عنه وتتجاهله النُخَبْ، بأن حاربت الأفكار المتطرفة للإرهاب من خلال نشاطها المسرحي، بأفكار بسيطة وبمشاهد واقعية لحادث موجع، كان أبطالها تلاميذ ومشاهديها تلاميذ، ففضحت الإرهاب ووعت التلاميذ منه، وقربت المفهوم القذر لمعناه، وكشفت عن الأعمال الخسيسة والجبانة التي تستهدف الوطن.
إن إدارة المدرسة بمشاهد تمثيلية، بينت للطلاب أن هناك دولا تدعم الإرهاب وتموله وترعاه من أجل أن تسقط مصر، وذلك من خلال رفع الطلاب المؤدين لمشاهد الإرهابيين أعلام إسرائيل وقطر وتركيا، وهو ما تعجز كل كتب وزارة التربية والتعليم والساسة عن توصيله للطلاب بالكلام أو الخطب أو الخرائط أو حتى المقررات.
إن إدارة المدرسة خرجت بحسن نية عن الخطط والتعليمات الصماء البلهاء، التي تُمْلي على كل المدارس، ولا نجني من ورائها إلا إضاعة الوقت والجهد، وحاولت أن تجتهد في تحمل مسئوليتها الاجتماعية والتنويرية والثقافية، بأن حاربت الإرهاب بإمكانيتها البسيطة، وبأدواتها الفعالة الفتاكة بتلاميذ اليوم مستقبل الغد، بأن جعلت من طابور الصباح مسرح عمليات يحاكي واقع الحادث الأليم، ليستنكر الفعلة، وينمي الانتماء والولاء للوطن.
لقد لعبت المدرسة دورها الحتمي فى تنمية مشاعر المواطنة لدى التلاميذ، بدءا من طقوس تحية العلم وهتاف تحيا مصر إلى إنشاد النشيد الوطنى، كطقوس تحرص الوزارة عليها.
لقد قرعت إدارة المدرسة جرسا خطيرا، وهو أن أنماط وأساليب النشاط المدرسي وخاصة المسرحي ينبغي أن تتغير، وأن تقوم على الإبداع والتحليل وقياس الشخصية والميول، وإرشاد الطلبة مع أولياء أمورهم إلى ما يحاك لتقويض مصر، غير مقتصرة – مدرسة يحيي الادغم - تفاعل التلاميذ مع حادث المسجد بالحداد وتنكيس العلم وأداء صلاة الغائب وإدانة الحادث الإرهابى بعبارات محفوظة ومملة وربما غير مفهومة، ليسقط إبداعها في مقبرة الإدارة والتعليمات.
فأعيدوا مديرة المدرسة ومشرفي المسرح إلي عملهم، وأعطوهم كأس الإبداع.