الأربعاء 06 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

لغز "معضلة الألم"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
طرح الإنسان منذ وجوده على هذه البسيطة، السؤال الوجودى الأصعب، الذى لم يجد له جوابا شافيا حتى الآن. هذا السؤال هو: لماذا الألم؟ ما أسبابه؟ لماذا البعض يتألم بآلام موجعة، بينما البعض الآخر لا يتألمها؟ هل هناك من إجابات مقنعة، للغز معضلة الألم والمرض والموت، الذى لا يميّز بين صغير وكبير؟ إن تفسير معضلة الألم، تبقى التحدّى الأكبر والأصعب لمهمة الإيمان المسيحي. فكيف نفسّر هذه المعضلة للإنسان المؤمن الذى يعانى المرض والألم، ونحن ندعوه للإيمان بالله الكلّى السيادة والكلّى القدرة والكلّى الخير؟
إذا ما درسنا العهد القديم من الكتاب المقدس، فإننا نلاحظ أن الفكر الذى كان سائدا فى ذهن العبرانيين، هو إرجاع سبب الألم إلى الخطية، إما خطية الإنسان نفسه، أو خطية آبائه وحتى أجداده. وهذا الفكر أيضا اشتركت فيه شعوب المنطقة المحيطة بالشعب العبري، منطقة شعوب الشرق الأدنى. فمفهوم الألم، كقصاص من الله على خطايا الإنسان أو أهله أو أجداده نراه واضحًا فى قصة إرسال الله للطوفان، وقصة إحراق الله لمدينتى سدوم وعمورة، وغيرها من القصص الأخرى. أما السبب الآخر للألم، الذى يذكره العهد القديم، فهو ليس القصاص وإنما تجربة الإنسان المؤمن واختبار مدى ثبات إيمانه ونضجه فى علاقته الروحية مع الله. وفى هذا الإطار نفهم الآلام الكبرى التى تعرض لها النبى أيوب.
يطلعنا إنجيل يوحنا فى الإصحاح التاسع من إنجيله، على إجابة المسيح لتلاميذه حول تساؤلاتهم عن ألم إنسان ولد أعمى فاقدا لنظره، محاولين معرفة سبب ذلك، فسألوه مستندين إلى الفكر السائد بين الشعب، «يا معلّم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟» (يوحنا ٩:٢). فأجاب المسيح قائلا: «لم يخطئ هذا ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه». وبالتالي، فالمسيح لم يحمّل مسئولية الألم لا لخطيئة الأب ولا لخطيئة الابن. ولكنه فى نفس الوقت لم يخبرنا عن سبب الألم، ولم يفسّر هذا السر اللغز لتلاميذه، إلا أن المسيح لم يقف مكتوف اليدين أمام ألم الأعمى، بل مدّ يده وساعده، فتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا، وطلى بالطين عينى الأعمى، وقال له اذهب اغتسل فى بركة سلوام. فمضى واغتسل، وأتى بصيرًا».
إن مشكلة الألم تطرق إليها عدد من آباء الكنيسة واللاهوتيين عبر التاريخ، أبرزهم القديس أوغسطينوس الذى عاش فى القرن الرابع الميلادي. فى كتاباته حول «أصل وطبيعة وحلول مشكلة الألم والشر فى العالم»، ذكر أوغسطينوس بأن خليقة الله جيدة فى الجوهر لأن الله عندما خلق الكون (كما تقول قصة الخليقة فى سفر التكوين)، فقد رأى ذلك أنه حسن، إنما بسبب الخطية المتمثلة فى سقوط آدم وحواء، حدث تشوّه فى الإرادة والحرية البشرية، مما أدى إلى إساءة الإنسان علاقته مع الله ومع نفسه، ومع الآخر، فى المجتمع، (وأيضا مع الطبيعة). ونتيجة لهذا التشوه الإرادى وتدهور العلاقة على جميع الأصعدة، ظهر ويظهر الشر بشكل متعاظم فى العالم، يتجسد جزء منه فى الحروب والقلاقل والمجاعات والآلام الأخرى التى يسببها الإنسان بسبب تشوه وفساد إرادته. وفى هذا الإطار نستطيع أن نفهم تحميل الرسول يعقوب للناس مسئولية الحروب (يعقوب ٤: ١-٣) والتفجيرات وقتل الناس الأبرياء. وأيضًا من نفس مبدأ تشوه وفساد الإرادة والحرية الإنسانية، نستطيع أن نفهم سوء علاقة الإنسان مع الطبيعة، بل سوء استخدام الإنسان للطبيعة والموارد الطبيعية، الأمر الذى يؤدى إلى ظهور الكثير من الأمراض والأوبئة. لهذا تتعالى الأصوات اللاهوتية المسيحية اليوم التى تدعو إلى ضرورة حسن معاملة الطبيعة خليقة الله، والحفاظ عليها لأنه بالحفاظ عليها نحافظ على حياتنا وعلى عالمنا الذى نعيش فيه. فسر القديس أوغسطينوس الأمراض على أنها تشوه وظيفي، بل ظهور أعطال فى النظام الوظيفى فى الجسم الإنساني. ومن المبدأ نفسه نستطيع أن نفهم أسباب الزلازل والبراكين على أنها يضًا تشوه وظيفى وضعف جيولوجى يصيب بعض المناطق الجغرافية فى العالم.
بالرغم من محاولة القديس أوغسطينوس وغيره، تقديم تفسيرٍ جزئيّ لمعضلة الألم فى العالم، إلا أنهم لم يستطيعوا سبر غور هذا اللغز الذى يبقى معرفته فى سلطان الله. تمنى الشاعر والفيلسوف عمر الخيام، الذى بعد تفكيره وبحثه فى أسرار الحياة، فى القرن الحادى عشر، أمنية كبيرة مستحيلة التحقّق، فقال، «إن رغبة قلوبنا لو نستطيع أن نعيد صنع الكون بدون ألم»، لكن الحقيقة الصارخة التى نواجهها كل يوم هى وجود الألم، لهذا فالسؤال الأساسى الذى يجب أن نجيب عنه هو، كيف نتجاوب مع الألم عندما يعترضنا؟ لقد دعا أتباع الفلسفة الرواقية اليونانية القديمة إلى قبول الألم وتحمله بشجاعة لأن الإنسان يولد فى عالم يحتوى الألم، وهو جزء من هذا العالم، فليخضع لهذا الواقع ويتحمله بهدوء. أما الجواب المسيحى واللاهوتى للآلام الإنسانية، فهو أنه ليس هناك انتصار ظاهري وخارجي لمعضلة الألم المستمرة فى هذا العالم الحاضر.
فالانتصار على معضلة الألم، هو أمر روحيّ داخليّ. يتحقــــق ليس بقــــدرات وإنجازات الإنســــان، ولكـــن بحضــــور الله فـــى الحياة،. إن الرؤية المسيحية للعالم المتألم هي، تقديم حقيقة النعمة والقوة وسط الألم، لتسنده وتمنحه الصبرلتحمل آلامه.