ليس من الصعب على أى باحث تفسير المشهد الحالى فى القدس المحتلة، خاصة العربدة الإسرائيلية فى المسجد الاقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ورغم أن هذه العربدة موجودة من زمن إنشاء الدولة العبرية، وخلال واحد وسبعين عاما عانى الحرم القدسى الشريف من محاولات التدنيس والاقتحام والحرق والتهويد، فإنه فى الفترة الأخيرة بدت الممارسات والانتهاكات الإسرائيلية أكثر جرأة ووقاحة ضاربة عرض الحائط بأى أعراف إنسانية أو قوانين دولية.
وإذا حاولنا معرفة أسباب الغطرسة الإسرائيلية على النحو الذى يتم يوميا بلا مراجعة أو محاسبة تحد من الاستمرار فى هذه السياسة التى تستهدف إحكام الهيمنة على الأراضى المحتلة، ومن بينها القدس، التى كان الجزء الشرقى منها مطمعًا لإسرائيل لتهويد الأقصى تحت مزاعم تلمودية، كرسها الفكر الصهيونى منذ المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بازل بسويسرا، بزعامة تيودور هرتزل فى ٢٩ أغسطس عام ١٨٩٧، ونجح هرتزل فى الترويج لفكرة استعمار فلسطين وإقامة وطن لليهود بعد أن كانت أوغندا أو الأرجنتين مرشحة لإقامة وطن قومى لليهود، ومن أهم نتائج مؤتمر بازل إقامة المنظمة الصهيونية العالمية لتنفيذ البرنامج الصهيونى الذى ينص على أن «هدف الصهيونى هو إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين يضمنه القانون العام».
حتى جاء وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور، فى ٢ نوفمبر عام ١٩١٧، وأطلق وعده الشهير الذى اقترن باسمه لمنح اليهود وطنا فى فلسطين، وفى غفلة من الزمن سلب عروبتها أمام العالم، وخلال عدة عقود جاء اليهود من الشتات شرقا وغربا من خلال الوكالة اليهودية التى خرج من رحمها عصابات الأرجون والهاجاناة لتدبر مذابح عدة للعرب، حتى جاء اليوم المشئوم ١٤ مايو عام ١٩٤٨ يوم إعلان ما يسمى «دولة إسرائيل»، وخلال ما يربو على سبعة عقود تفجر الصراع العربى الإسرائيلى، وشهد أربع حروب ٤٨ و٥٦ و٦٧ و١٩٧٣، نجد أن القضية الفلسطينية كانت فى تلك الفترة هى القضية المركزية للعرب جميعا، وفى السنوات العشرين الأخيرة، تراجع الاهتمام العربى بها، ويعود ذلك لتقادم، أو بالأحرى تفكك روابط العمل العربى المشترك تدريجيا حتى جاء الخريف الذى اصطلح على تسميته –خطأ– الربيع العربى، وهنا انكشفت أبعاد المؤامرة الكبرى على «الوطن العربى».
ورغم أننى لست من المحبذين لمنهج نظرية المؤامرة فى التحليل السياسى، فإن هناك فعلا مخططا يسعى منذ عام ٢٠١١ إلى تفتيت العالم العربى، وتواكب هذا مع تنحى الفكر القومى العروبى ونشر أفكار تغليب المصلحة أحادية الجانب، وحل مشاكل كل دولة عربية بمعرفتها واختلاق الأزمات الإقليمية، وفى الوقت نفسه تكريس أطماع أطراف تحاول فرض نفسها على المساحة الممتدة من الخليج العربى إلى المحيط الأطلسى، ومن بينها بالطبع إيران التى تعمل بشتى الطرق على إحياء مشروعها الفارسى الذى يقابل العروبة من خلال تعميق الهوة بين الشيعة وأهل السنة، رغم التعايش بين الجانبين لقرون عدة، ولم تكن الخلافات المذهبية فى يوم من الأيام سببا للصدام إلا بعد أن قرر حكام طهران تسييس هذه الخلافات والترويج لفكرة الصراع السنى الشيعى بالباطل.
وخلال السنوات الأخيرة، استقرت فى أدبيات الفكر السياسى مصطلحات نظرية الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، وحروب الجيل الرابع، وحاول البعض إعادة رسم خريطة الوطن العربى بشكل يختلف عن خريطة الوطن العربى فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، خريطة جديدة تنتشر فيها بؤر التوتر والمنازعات الإقليمية، وهو الهدف للمخطط المرسوم للمنطقة العربية.