يطرح المؤرخ الفرنسى البارز هنرى لورنس، أستاذ التاريخ المعاصر للعالم العربى بالكوليج دو فرنس، فى كتابه الموسوعى مسألة فلسطين، المجلد الخامس والصادر عن المركز القومى للترجمة بالقاهرة ٢٠١٦، والذى نقله من الفرنسية إلى العربية المترجم البارز بشير السباعي، الذى يبدأ من يونيو ١٩٨٢ وينتهى فى يناير ٢٠٠١، أو بمعنى أدق منذ اجتياح لبنان إلى عشية أوسلو.
وإذا كانت هذه الأعوام العشرون قد تميزت بالعديد من أعمال العنف، فى إسرائيل والأراضى الفلسطينية، فإنها قد شهدت أيضا قيام ما سمى بعملية السلام. يقول هنرى لورنس: فى ٥ يونيو ١٩٨٢، يقوم سلاح الجو الإسرائيلي بدك منهجى للبنان من الحدود وحتى مشارف بيروت. وحصيلة الضحايا التى أعلنتها الصحافة اللبنانية تتمثل فى ١٣٠ قتيلا و٢٥٠ مصابا. ويدعو لبنان مجلس الأمن إلى الانعقاد فورًا، فيوافق المجلس على القرار ٥٠٨، والذى يلزم «كل أطراف النزاع فى لبنان بالوقوف الفورى والمتزامن لكل نشاط فى لبنان وعلى جانبى الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية».
ومنذ وقت طويل، تمتنع وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تسمية الفلسطينيين باسمهم وكلمة م. ت. ف (منظمة التحرير الفلسطينية) مرادف لكلمة «إرهابى». وقد رأت جولدا مائير أن الفلسطينيين لم يكن لهم وجود، ويرى بيجين أن هذه الكلمة لا تنتمى إلى اللغة العبرية. وتمتد صفة الإرهابى ليس فقط إلى المقاتلين المنتمين إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بل أيضا إلى كل البنية التحتية المدنية الفلسطينية، بل إلى الشعب الفلسطينى عن بكرة أبيه. ومنذ قيام دولة إسرائيل، يجرى تعريف هؤلاء الإرهابيين بأنهم موالون للنازيين وبأنهم أعداء، ومن جهة أخري يستخدم بيجين فى مناقشاته مع وزرائه تعبير «م. ت. ف. النازية».
وفى ضحى ٨ يونيو، يجلو الجيش السورى عن جزءين بعد معارك عنيفة ضد الإسرائيليين، فينسحب إلى مسافة عشرة كيلو مترات إضافية شرقا. وتحاول سوريا تفادى الحرب، فهى لم تتجه إلى تعبئة عامة وتود التمسك بالخطوط الحمراء المحددة فى عام ١٩٧٦. والحال أن السوريين لم يستخدموا منصات صواريخ مضادة للطائرات فى البقاع للتصدى لسلاح الجو الإسرائيلي.
ويتواصل القتال فى قطاعى صور والنبطية. وقد تحولت المخيمات الفلسطينية إلى جيوب مقاومة وتقوم الميليشيات المحلية بالدفاع عن وطنها الصغير باستماتة. وتلك هى القاعدة العادية فى موقف كهذا. فالمقاتلون الذين تكشف ضعف جدارتهم فى ممارسة حرب العصابات يصبحون رهيبين عندما يدافعون عن أهاليهم.
والآن يصل قوام جيش الغزو إلى ٦٠ ألف جندى فى مواجهة ٦ آلاف رجل هم قوام «القوات المشتركة» الفلسطينية ـ التقدمية، ويدور القتال هناك بشراسة ويتحول إلى قتال التحامى أحيانا، حيث إن المدرعات هشة للغاية فى مواجهة الأسلحة المضادة للدبابات. ولا يفهم الضباط الإسرائيليون عزيمة الاستماتة التى تحرك المدافعين عن المخيم. وهم يعتمدون على إخصائيين نفسيين لإقناعهم بوقف القتال ويهددون بدك المخيم بالنابالم إذا استمرت المقاومة. وبما أن هذا لا يفضى إلى شيء، فإنهم يقررون المضى إلى الاستيلاء على المخيم بيتًا بيتًا، مهما كان الثمن بالنسبة للسكان المدنيين، ويتصرف العسكريون الإسرائيليون دون رحمة، مفعمين على ما يبدو بروح الثأر من عمليات الإرهابيين، أو حتى من كل أعداء الشعب اليهودى على مدار التاريخ.
ويخسر سلاح الجو السورى عدة طائرات فى المعارك. وفى منظمة الأمم المتحدة، تستخدم الولايات حق الفيتو ضد مشروع قرار إسبانى يطالب بانسحاب فورى وغير مشروط للإسرائيليين، وهو مشروع قرار وافق عليه أعضاء مجلس الأمن الـــ ١٤ الآخرون. وقد اعتبرته الولايات المتحدة مشروعًا يفتقر إلى ما يكفى من التوازن. ويتمثل الموقف الأمريكى فى وجوب الاستفادة من الوضع الجديد للعثور على حل مرضٍ لا يكون من شأنه العودة إلى الوضع السابق. وتلك هى سياسة الحمق المألوفة منذ عام ١٩٦٧.
وفى ٩ يونيو، يضطلع سلاح الجوى الإسرائيلى بتدمير منهجى للبطاريات السورية فى البقاع، مستخدمًا ترسانة بأكملها من الأسلحة الإلكترونية المضادة. ويحاول السوريون التصدى لذلك باستماتة وذلك بإرسال جانب كبير من سلاحهم الجوى القتالي، وخسائر رهيبة، إذ جرى تدمير عدة عشرات من الطائرات ويلقى طيارون عديدون مصرعهم، وتعويضهم أصعب من تعويض الطائرات. ويرى السوفيت أن الإسرائيليين جاوزوا المدى كثيرًا وهددوا انتشارا بأكمله عرف ساعات مجده فى فيتنام وخلال حرب كيبور (أكتوبر ١٩٧٣). ومن باب الرد التأديبي، يقررون فورًا فى موسكو إعادة التسليح الشامل للقوات السورية، ورفع مستواها إلى أعلى مستوى بكثير من المستوى الذى كانت عليه فى مستهل يونيو ١٩٨٢.
وفى ١٠ يونيو، يمتد جسر جوى بين طهران ودمشق. وترسل الجمهورية الإسلامية كوادر من الحرس الثورى بهدف قيادة الميليشيات الشيعية اللبنانية. وهذا منعطف رئيسى فى مسألة فلسطين، إذ تدخل إيران مباشرة فى النزاع. إلا أنه لا يجرى إدراك ذلك ساعتها. والسبب الرئيسى للتدخل الإيرانى هو الرد على الدعاية العراقية التى تدعو إلى وقف لإطلاق النار فى الحرب العراقية ـ الإيرانية وإلى نضال مشترك ضد إسرائيل. فطهران تمتنع، مطالبة بتعويضات باهظة عن خسائر الحرب وبتغيير للنظام فى بغداد. إلا أن عليها أن تبدو بالفعل كمحاربة للصهيونية، حتى وإن كان هذا النضال لا يجب أن ينفصل عن النضال ضد صدام حسين.