مع وصول القوات الدولية والعراقية إلى قلب الموصل، تكون بداية النهاية العسكرية قد أزفت لتنظيم داعش المسلح فى ذلك المكان، ولن يكون الوقت طويلًا قبل أن يُدحر أيضًا من جانب القوات الدولية وحلفائها فى الرقة على الأرض السورية... بقية التنظيم المسلح سوف تتناثر. ولكن السؤال المهم: هل انتهت الحرب بعد ربح المعركة العسكرية؟ حتى نجيب عن هذا السؤال، نطالع مع القارئ الكريم هذا النص الذى يقول: «إن أولى الخطوات فى طريقنا، هى أن نستعلى على هذا المجتمع الجاهلى وقيمه وتصوراته، وألا نُعدل نحن فى قيمنا قليلًا أو كثيرًا لنلتقى معه فى منتصف الطريق، كلا... إننا وإياه على مفترق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة، فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق...».
لو قلت للقارئ إن هذا النص من النصوص التى تركها أبو بكر البغدادى (إبراهيم عواد إبراهيم على) لمن يأتى من بعده، لما دخل الشك فى ذهن المتابع، إلا أن المفارقة أن هذا النص ليس للبغدادي، وإن كان يُعبر حق التعبير عن مجمل الأفعال التى اتبعها «داعش» بقيادته، أو «القاعدة» تحت قيادة الزرقاوي، أو غيره من قادة ما يزعمون أنه جهاد، من العراق شرقًا حتى ليبيا غربًا، ومن أفغانستان إلى اليمن، والتى تركز على إطراء الاستعلاء على «المجتمع الجاهلي، وعدم مسايرته، بل مفارقته كليًا وحربه أيضًا». إلا أننى اقتبست تلك الأسطر من كتاب «معالم فى الطريق» لسيد قطب، الذى كانت كتاباته، وربما لا تزال، «إنجيل» الفرق المتشددة، والمفارقة للعالم الحديث، بألوانه واجتهاداته المختلفة.
قد يرى البعض أن تلك الفقرة قد نزعت من سياقها، ولكن الحقيقة التى قد تكون مُرّة، أنها مُرددة فى معظم ثنايا ذلك الكتاب وغيره من الكتب المشابهة، التى كانت متاحة فى مدارسنا، ومعظم المكتبات حتى وقت قريب؛ بل إن بعضها طبع أكثر من طبعة تعدت العشرات، دليلًا على إقبال أشخاص ومجموعات على قراءة تلك الكتب والأخذ بتصوراتها، بل إن تلك الكتب شكلت القاعدة الفكرية لفهم قيادات سياسية إيرانية، أخذت بمنهجها. الأكثر تحييرًا أن مثل هذه الكتب، خصوصًا «معالم فى الطريق»، متاحة اليوم على الشبكة الدولية للإنترنت!
أفكار التشدد والتطرف المشيعة للأوهام، سوف تبقى فى محيطنا إن لم يفتح الباب لنقاش جدى وحيوى حول وهمية تلك الأفكار، ويصل إلى إجابات واضحة المعالم، ويفسر لنا كيف وقع ويقع عدد من شبابنا فى مصيدة الأفكار المتطرفة، التى تقود فى النهاية بعضهم إلى القيام بأعمال متطرفة يشوبها العنف الفظ والإجرام الصريح.
حتى تتضح الصورة؛ الأفكار التى أتى بها سيد قطب وآخرون انتموا إلى مدرسته بدرجات، وهى «المفارقة» للمجتمع، جاءت تحت ظروف مجتمعية وسياسية بالغة التعقيد، فى مرحلة تحول كبير فى الفضاء العربي؛ من الانفكاك من المستعمر إلى البحث عن بناء الدولة الحديثة. البعض اعتقد أن بناء الدولة، فى رؤيتهم، شرطه الأساسى «مفارقة المجتمع الكافر» و«المفاصلة» والتوجه إلى «الدولة الإسلامية»! وكان واضحًا أن تلك الأفكار بجانب أنها خطاب إطلاقى معمم، مغرقة فى المثالية النظرية، ولم يكن مطلقوها على دراية جدية بتطور المجتمع المسلم خلال تاريخه الطويل، أو على فهم لتطور العالم. كان خطابًا نكوصيًا معتمدًا على شيطنة الآخر بالمطلق، و«ملائكية الأنا» بالمطلق، وأن الحضارة الغربية بعموميتها وتفاصيلها شر مطلق! وبسبب عمومية النص وإطلاقه، وجد من يعتقد به؛ لأنه كان سهلًا؛ «أسود وأبيض» لا غير، متجاوزًا الحقيقة الحياتية أن الحياة والتاريخ «قوس قزح؛ به كثير من الألوان».
قبول تلك النصوص على عِلاتها ساعدت عليه مجموعة متداخلة من العناصر؛ واقع سياسى واجتماعى مأزوم، وضعف أو عدم وجود حلول عقلية وعقلانية للمشكلات التى تواجهها المجتمعات، وضعف فى التكوين والتفكير لدى النخب، وأخيرًا سهولة تسييس ذلك الخطاب من أجل حشد جماهيرى أوسع.
ساحة المعركة الحقيقية هى كشف الأوهام، التى أصبحت صناعة لها تُجارها الكثر، ومنهم جيش الإرهاب!
نقلًا عن «العربية نت»