رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عشرون عامًا قلبت موازين العـالم "8"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتابع المفكر السياسى الفرنسى البارز تييرى دو مونبريال، مدير المركز الفرنسى للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، فى كتابه الضخم بعنوان «عشرون عامًا قلبت موازين العالم» التحولات العالمية الضخمة التى شهدها العالم خلال الفترة من ١٩٨٩ إلى ٢٠٠٨. 
يقول تييرى دو مونبريال: عندما نوه بطرس غالى الأمين العام للأمم المتحدة فى معترك أزمة يوغوسلافيا إلى معاناة الصومال، كان ذلك تذكيرًا حكيمًا لنا بوجود العالم الثالث، حتى إن كانت هذه المصطلحات لا تتوافق، مع واقع القرن العشرين الذى يوشك على الانتهاء. 
إن صدور كتاب المفكر الأمريكى «فرانسيس فوكوياما» باللغة الفرنسية، تسبب فى انطلاق السجال من جديد الذى كان قد بدأه عام ١٩٨٩، فى كتابه بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» والانتصار النهائى لــ «الديمقراطية». 
وفى اللحظة التى تلاشى فيها وهم قيام نظام عالمى جديد بقيادة الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة، وفى الوقت الذى أصبح المعلقون والسياسيون لا يتحدثون فيه إلا عن التهديد الذى يمارسه «البرابرة الجدد»، وهو المصطلح الذى أطلقه المفكر والكاتب «جون كريستوف روفين».
إن الأيديولوجية الشيوعية التى ظهرت بقوة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تلبث أن تراجعت مع تفاقم الفشل الذى حققه النظام السوفيتى على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والإنسانية. وفى المقابل، كان نجاح الديمقراطية الغربية الليبرالية على الصعيد الاقتصادي، وقدرات الجمهورية الأمريكية على مواصلة دعم استمرار الصراع المناهض للاتحاد السوفيتى بشكل مذهل، واستنكار ورفض المفكرين لموروث نظام لينين وستالين ومن بينهم عالم الاجتماع الفرنسى «ريمون آرون» الذى كان أكثرهم وضوحًا فى رؤيته، كل ذلك أدى، إلى قلب الاتجاهات الأيديولوجية وفى النهاية تحطمت الشيوعية وفازت الليبرالية. 
وعقب النشوة التى سادت العالم لفترة قصيرة بعد انتهاء حرب الخليج، أخذت مجموعة من المعلقين تشير اليوم إلى ظهور عدو جديد، حلت تهديداته اليوم محل تهديدات الاتحاد السوفيتى السابق. إنه العالم الثالث. 
وعلى الرغم من تعدد أنماط شعوبه، فإن لهذا العالم نواة صلبة ألا وهى الإسلام. إن هذا العدو الجديد الذى يبلغ النمو السكاني به نحو ٣٪ فى بعض المناطق مثل دول المغرب، هذا العدد يوشك أن يغرقنا بسبب الهجرة والإرهاب وانتشار التسلح والمخدرات؛ ولهذا السبب يجب على الغرب التسلح لمواجهة هذه الحملة الجديدة، بمعنى وقف وإجهاض جهود هؤلاء البرابرة التى تهدف لامتلاك وسائل وآليات قوية قادرة على الوصول إلينا وإصابتنا. 
لقد كانت معركة العراق أول تجربة من هذا النوع الجديد من الحروب. وفى نهاية المطاف سوف يفوز الغرب بهذه المعركة؛ كما سبق أن فاز بما سبقها. فالديمقراطية هى دومًا الفائزة، لأن قوتها لا تقهر وتمتلك جاذبية على المستوى العالمي. 
إن الأفكار التى ذكرها فوكوياما نفسه تتسم، فى الواقع، بشدة التعقيد، إلا أن الملخص السابق يوضح أن الصورة المرسومة حاليًا لفكر عدد من المحللين والمعلقين، قد اكتسبت كثيرًا من الشهرة، فما يهم، فى هذا الجدال، هو توضيح بعض أبعاد المسألة. 
فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مرت العلاقات بين الغرب والعالم الثالث بأربع مراحل متتالية. المرحلة الأولى: كانت تهدف إلى الحصول على الاستقلال. ويمكننا أن نعتبر أنها انتهت فى عام ١٩٧٤ مع استقلال كل من أنجولا وموزمبيق الذى جاء مواكبًا لثورة البرتغال. ومن خلال هذه المرحلة، أصبحت المستعمرات القديمة تحديًا فى التنافس بين الشرق والغرب، لا سيما أن قواعد الردع النووى أصابت، بالتدريج، الموقف فى أوروبا، بل وأيضًا فى آسيا بالجمود. المرحلة الثانية: بدأت منذ صدمة النفط الأولى مع تولى الرئيس الأمريكى ريجان الرئاسة. وقد تميزت هذه المرحلة بانتشار الأيديولوجية الماركسية الجديدة لـ «النظام الاقتصادى العالمى الجديد»، بزعامة الرئيس الجزائرى هوارى بومدين الذى اختار محاكاة الاتحاد السوفيتى فى هياكله السياسية والاقتصادية، وأدى ذلك إلى مأساة بلاده. 
أما المرحلة الثالثة، فهى تغطى مجمل العقد الثامن من القرن العشرين والذى كان محوره المعركة النهائية ضد إمبراطورية الشر. إن المنافسة بين الشرق والغرب لم تظهر فى العالم الثالث إلا بطريقة محدودة (مثل إفريقيا الجنوبية وبالطبع فى أفغانستان) أو بطريقة مخففة. فمشكلة الديون تسبب عرقلة مأساوية للنمو فى أمريكا اللاتينية، بينما أكثر الدول فقرًا فى العالم، التى تقع فى إفريقيا السوداء وشبه القارة الهندية، غارقة فى البؤس. 
وعلى الرغم مما حدث فى مؤتمر كانكون فى عام ١٩٨١، فالتجاهل يسود الغرب المطمئن تجاه إمداداته البترولية وما يحتاجه من مواد أولية. 
لقد عايش الغرب والسوفيت مأساة الحرب بين العراق وإيران، التى كانت هائلة أولًا على المستوى الإنساني، كما لو كانت قضية داخلية تتعلق بمعسكر «البرابرة»، ولا تعنيهم فى شيء إلا فيما يتعلق بنتائجها المباشرة. ومن هنا كانت سياسة التوازن التى اتبعتها الديمقراطيات الليبرالية التى كانت تسيطر عليها فكرة واحدة؛ وهى منع إيران من الانتصار فى هذه الحرب. 
المرحلة الرابعة: بدأت بسقوط الإمبراطورية السوفيتية وحرب الخليج. فلقد اكتشفنا من جديد أن العالم الثالث لا يزال موجودًا، ولكن نظرًا لرؤيتنا له دائمًا من خلال أشكال مشوهة، فلا أحد يعرف اليوم كيف يتعامل معه. فالمقصود بهذا العالم كما يقول «جون كريستوف روفين» البرابرة الجدد بالمفهوم الرومانى للكلمة: أى من لا نستطيع إحصاءهم ولا فهمهم، من ينتمون إلى عالم آخر ومفاهيم مختلفة تمامًا. 
وعلى نقيض الاتحاد السوفيتى السابق، فالعالم الثالث ليس عالمًا منظمًا بهدف لغزو كوكب الأرض. فهو لا يطالب بأيديولوجية ذات بعد عالمي. إنه ليس سوى عالم يئن ويقاوم، كيفما يستطيع تجاه المآسى التى تصيبه. لذلك لا يجب البحث بعيدًا عن السبب الحقيقي، كما كان المؤرخ الإغريقى الشهير «ثوكيديس» يقول عن الأصولية الإسلامية. 
إننا لن نحرز أى تقدم بتأكيدنا أن الديمقراطية ستفرض فى النهاية، نفسها، فالديمقراطية، أى مبدأ تبادل الأدوار عن طريق الاقتراع العام، لن يطبق إلا فى الدول التى لديها الاستعداد لاستقبالها، فهذا النظام يفترض حدًا أدنى من التماسك الاجتماعى وحدًا أدنى من التعليم والراحة المادية. كما يفرض أيضًا حدًا أدنى من التنظيم لتحجيم التوترات الاجتماعية الناجمة عن الظلم الاجتماعي. 
المشكلة الحقيقية لا تكمن فى إصدار مرسوم بإقامة الديمقراطية فى العالم الثالث، فهذا العالم يجب أولًا: أن يتواصل إلى الانطلاق على الصعيد الاقتصادي. إن استباق وضع نظام سياسى ديمقراطى قبل أى مساعدة اقتصادية، ربما يكون فى الغالب طريقة ماكرة لعدم العمل، ومن ثم تعميق الفجوة بين معسكر «الدول الغنية» المنعزل و«البرابرة الجدد».