رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التقدم الحضاري.. عربيًا وغربيًا "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فكرة «التقدم» - كما تبلورت فى أعمال أكثر المفكرين فى الشرق، بوصفها تجسيدًا لوجود وعى ذاتى أصيل وفعال فى التاريخ – تعُد من أخطر القضايا التى شغلت الفكر الحديث.
ويبدو أن هذه القضية ليست إلا واحدة من قضايا كثيرة يحفل بها هذا الفكر، لكن الحقيقة أن فكرة «التقدم» ربما تكون المسألة الوحيدة التى تستقطب تجليات الفكر الشرقى فى مجمله وتكمن وراء جُل الفعاليات النظرية والعملية التى حملت المثقفين على أن يسهموا فى عملية بناء هذا العالم الحديث. 
لكن مصطلح «التقدم» (الذى هو نقل عربى لكلمة Progress كما ذكرنا من قبل) ليس هو المصطلح الأكثر استخدامًا عند المفكرين فى الشرق العربى، إذ ثمة مصطلحات أخرى نجدها أوسع انتشارًا حتى فترة ما بين الحربين العالميتين فى القرن العشرين؛ مثل مصطلح «الترقى» الذى يدل على التحسن الكيفى وعلى السمو فى مراتب الوجود، ومصطلح «التحضر» الذى يعبر عن التحرر وتحقيق الكرامة الإنسانية ؛ فأى جهد يؤدى إلى مزيد من التحرر وأية قدرة مكتسبة فى تطويع الطبيعة أو فى رفع ظلم إنسان أو فى إطلاق الذات من حدودها الضيقة هى كسب تقدمى. كذلك مصطلح «التحديث» الذى يعنى التغيير والتجديد فى مجال الفكر والثقافة والانفتاح على آفاق جديدة فيهما، والتعاون مع الأنماط المتقدمة.
ومصطلح «الإصلاح»، الذى جاء مرتبطًا بتيار التجديد الدينى مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على يد «الكواكبى» (١٨٤٨ – ١٩٠٢ ) و«محمد عبده» (١٨٤٩ – ١٩٠٥ )، ومن ثم يمكن القول إن الإصلاح يعنى تحويلًا أو تطويرًا غير جذرى فى شكل الحكم أو العلاقات الاجتماعية من دون مساس بأسسها وهو ليس سوى تحسين فى النظام السياسى والاجتماعى.
ومصطلح «التنوير» الذى هو تعبير عن التمرد بل الثورة والرفض للواقع القائم، والرغبة فى تغيير ذلك الواقع وتعديله. و«التنوير» هو حركة تغيير شاملة فى الثقافة العربية – بالمعنى الأنثروبولوجى الواسع لكلمة «ثقافة»– وهو محصلة الاتصال الثقافى المباشر بالغرب، والتأثر بالقيم الفكرية التى ترتكز عليها هذه الثقافة.
أما مصطلح «النهضة» فهو يعود إلى الحركة التى عمت البلاد العربية والتى نبهت العرب إلى ماضيهم وإدراكهم واقعهم المتأخر، وسعيهم لإحياء هذا الماضى بما فيه من أصالة وعراقة ؛ والعمل على تجاوز هذا التأخر– عن ركب الحضارة – من أجل بناء مستقبل أفضل. 
فكرة «التقدم» هى إحدى الأفكار المركزية فى الحضارة الغربية، وهى تعود فى أصلها إلى الفكر اليونانى القديم حيث ارتبطت بفكرة قابلة للكمال، أى القدرة على بلوغ الكمال، وهى الفكرة القائلة بأنه يمكن بلوغ الفضيلة والحكمة والسعادة. ولم يغب عن فكر اليونان أن الحضارة الإنسانية كانت تعتمد على عملية نمو تدريجى حققت – من خلاله – مسألة ارتقاء الإنسان من حالة الهمجية البدائية إلى حالة التحضر والرقى، فمثلًا صور «إسخيلوس» Aeschylus (٥٢٥ – ٤٥٢ B.C) – وهو من أهم كتّاب (التراجيديا فى الأدب اليونانى ) كيف كان البشر يحيون فى الأصل فى كهوف رطبة مظلمة، ثم انتشلهم «برومثيوس» Prometheus من هذه الحالة بعد أن علمهم فنون الحياة؟.
معنى ذلك أن فكرة ارتقاء الجنس البشرى وتقدمه تتماشى مع الطبيعة الأسطورية القائلة بحدوث تدخل من قوى إلهية خارقة، تنقل الإنسان من مستوى طبيعى منظور إلى مستوى فوق الطبيعي؛ أى أنها تقوم على حقائق خالدة وتؤسس صلة دائمة بين العالم الدنيوى والعوالم المقدسة. ومثل هذا القول لا يتعارض مع الاعتقاد السائد بأن العنصر الإنسانى تعرض لحالة من التدهور فى البداية، ثم تدرج فى سلم الرقى الاجتماعى والمادى خلال عهود تالية.
ورغم اعتراف فلاسفة اليونان بمفهوم «التقدم» النسبى، فإن نظرتهم العامة تركزت على القول بأن الإنسان يحيا فى عصر تدهور وانحدار محتوم، ترجع حتميته إلى أنه مجبر على اتباع هذا المصير بتأثير قوى الطبيعة.
فالعالم – كما رأى «أفلاطون» – من خلق الإله ومنه يستمد قوته الدافعة، ويتميز بالكمال لأنه من صنعه، لكنه ليس خالدًا فهو يحتوى على بذور تدهوره أو فساده.
ولم تكن هذه الفكرة سوى مثال يبرهن بوجود نظام مثالى مطلق ساد تصور اليونان للمجتمع، وعندما يستقر هذا النظام يصبح أى انحراف عنه اتجاهًا إلى الأسوأ. وعندما نظر «أرسطو» Aristotle (٣٨٤ – ٣٢٢ B.C) إلى هذه الفكرة من زاوية عملية، رأى أنه لا يمكن أن يتغير أى نظام اجتماعى راسخ.