يتابع المفكر السياسي الفرنسي البارز تييري دو مونبريال، مدير المركز الفرنسي للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، في كتابه الضخم بعنوان «عشرون عامًا قلبت موازين العالم» التحولات العالمية الضخمة التي شهدها العالم خلال الفترة من ١٩٨٩ إلى ٢٠٠٨.
يقول تييرى دو مونبريال: «وما يثير الدهشة أكثر فى هذه القضية أن صدام حسين ظل حتى النهاية خصمًا عنيدًا، لذا كان أعداؤه يخشون قيامه بمبادرة قد تعمل على زعزعة التحالف وقيادته، فهل حقًا كان يعتقد أن قواته سوف تكبد خسائر غير محتملة للقوات الأمريكية وحلفائها، وبأنه بذلك سوف يتمكن من الالتفاف حول الرأى العام الغربى وإشعال المنطقة العربية وإثارة العرب؟ أم تم تضليله من قبل بعض المحيطين به ممن تم ترويعهم؟ ولكن دون الحاجة للعودة للحديث عن الجدال حول «أفول شمس» الولايات المتحد، وهو مصطلح متفق عليه، ولكنه يدعو للأسى، هذا الجدال الذى تغذيه وتدعمه أعمال بعض الكتاب الأمريكيين، مثل: بول كينيدى، وجوزيف نى، فالحقيقة أن السلطة النسبية لواشنطن قد انخفضت منذ الحرب العالمية الثانية. فعلى الصعيد الاقتصادى، كانت أقصى قدرة اقتصادية وصلت إليها الولايات المتحدة فى الخمسينيات، وتعانى عجزًا ضخما فى الاحتياطى النقدى مقارنة باحتياجاتها التمويلية، فى الوقت الذى بدأت فيه بنيتها الأساسية الكلية تتهالك، فضلا عن أن مواجهة التوترات الاجتماعية، لا سيما العنصرية، تفرض عليها مزيدًا من الإنفاق.
كل ذلك يفسر، جزئيًا، لماذا فرضت الولايات المتحدة على حلفائها، وهى الدول المعنية فى الخليج العربى، وكذلك ألمانيا واليابان على الرغم من عدم مشاركتهما فى العمليات العسكرية، الإسهام فى تمويل حرب الخليج، وفى الواقع، لقد ساعدت هذه التبرعات فى تغطية تكلفة الحرب بالكامل تقريبًا، وحينئذ كان يقال إن الولايات المتحدة بغرورها أصبحت قوة قرصنة، وهذا أمر غريب، فهذه الإسهامات قد ساعدت فى تعزيز شرعية التدخل الخارجى فى هذه القضية، ولكنها كانت أيضًا ضرورية من الناحية الاقتصادية، وهذا أمر غير مسبوق فى تاريخ الجمهورية الإمبريالية. وفى الواقع، لقد بدأ الحلم القديم فى تنظيم القارة الأمريكية يتجسد بإنشاء منظمة للتجارة الحرة تمتد من كندا إلى المكسيك، وكذلك بمبادرة بوش لتوسيع هذه المنطقة لتشمل أمريكا اللاتينية.
إن العالم لم يصبح بالتأكيد أحادى القطب، إذا كان يفهم من هذا المصطلح أن الولايات المتحدة ستكون لديها الرغبة فى فرض قبضتها عليه.
إن الولايات المتحدة مثلها مثل باقى الدول تعمل فى الخارج وفقًا لرؤيتها ومصالحها الخاصة، فبحر المصالح المشتركة مع الدول الأخرى يمكن أن تتم تغطيته بشكل كبير، ولكن يكون ذلك بشكل كامل على وجه الإطلاق، لقد كان دور الأمم المتحدة أثناء أزمة الخليج، هو إضفاء الصبغة الشرعية على تدخل الولايات المتحدة، فدون تدخل الأمم المتحدة، ما كان جورج بوش قد تمكن من تشكيل تحالف ضد صدام حسين، وما كان الرأى العام الأمريكى قد تبعه حتى النهاية.
وعلى المستوى المحلى، فإن حرب الخليج قد اتضحت معالمها بالاعتراف المؤكد أن تكون بزعامة الولايات المتحدة وبدعم ثلاث دول غير عربية فى المنطقة، وهى: تركيا وإيران وإسرائيل، وكذلك بزيادة تبعية الأنظمة السياسية فى كل من المملكة العربية السعودية ومصر وبالطبع دولة الإمارات، للولايات المتحدة، وكانت أهم النتائج لهذا الوضع الجديد أن سعر البترول، لبضع سنوات على الأقل، أصبح يتم تحديده شبه سياسيًا، وأصبح يخضع للتحكم فى واشنطن.
لقد نجح الملك حسين، ملك الأردن، فى الخروج من محنة قاسية دون خسائر، بيد أن مستقبل الأردن من أى وقت مضى، مرتبطًا بشكل وثيق بالصراع العربى الإسرائيلى والمشكلة الفلسطينية، وكانت سوريا هى الدولة العربية الوحيدة التى حصلت على بعض المكاسب، دون شك، من هذه الأزمة، إلا أن سياق مجمل الأحداث كان يفرض الحكم على الأمور بحذر شديد، لقد فقد حافظ الأسد القدرة على تحريض موسكو ضد واشنطن، ولأن بلاده من الدول غير المصدرة للبترول، فالاقتصاد السورى يعتمد على المعونات التى تقدمها الدول البترولية الملكية. فالولايات المتحدة وحلفاؤها فى حرب الخليج، كانت تعتزم عدم إعادة علاقاتها مع العراق بشكل كامل إلا بعد انسحاب صدام حسين من الكويت، طوعًا أو عن طريق اللجوء إلى القوة، فإن تمسكه بالسلطة قد أذهل المراقبين الذين كانوا يعتقدون أن صدام حسين لا يحظى بأى شرعية فى بلاده، وبأن ثورة نابعة من قصره ربما ستندلع سريعًا، لقد طرح انهيار الإمبراطورية السوفيتية مشكلة الاستقلال فى الجمهوريات الآسيوية فى القوقاز، كما تطرح مشكلة مستقبل دول البلطيق ومولدافيا التى كانت قد انضمت للإمبراطورية الروسية فى بداية الحرب العالمية الثانية، لقد أصاب هذا الحدث الجلل قلب التاريخ الروسى وهو القطاع السلافى، أى روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء، فقد أدى كسر الجمود فى دول شرق أوروبا الوسطى، بل وأيضًا فى دول البلطيق، إلى بروز عداءات قديمة طرحت من جديد قضية إعادة تقسيم أراضى الإمبراطورية الروسية، فلو أن صدام حسين فى الشرق، كان قد خرج من الحرب منتصرًا، لكان نظام الحدود قد انقلب رأسا على عقب، فهذه الظواهر مرتبطة بعضها البعض الآخر، لأنه فى عهد العداء بين الشرق والغرب، لم يجرؤ الزعيم العراقى، فى الحقيقة، على المضى فى مغامرة تمس، بطريقة مباشرة القوتين العظميين، كما كان يطلق عليهما فى ذلك الوقت، وقد أدت حرب الخليج، فى الشرق الأوسط، إلى إغلاق هذا الملف بشكل مؤقت.
إلا أن الموقف، فى أوروبا، يختلف تمامًا، نظرًا لأن الحركات التى انطلقت، تأتى من العمق، لقد كانت يوغسلافيا، أضعف حلقة فى المنطقة، هى أول من بدأ هذه الحركات، فقد نشأ المشروع اليوغسلافى من أيديولوجية القرن التاسع عشر والرغبة فى إذلال النمسا التى كانت السبب الرئيسى وراء إنشاء دولة تشيكوسلوفاكيا.
شهدت يوغسلافيا، التى تم تأسيسها فى الثامن والعشرين من أكتوبر عام ١٩١٨، صدامًا بين اتجاهين مختلفين اختلافًا واضحًا، الأول: الرغبة فى إنشاء صربيا الكبرى، والثانى: تكوين دولة فيدرالية من الشعوب السلافية الجنوبية تلقى ترحيبا من جانب الكروات.