يتابع المفكر السياسى الفرنسى البارز تييرى دو مونبريال، مدير المركز الفرنسى للتحليلات والتوقعات التابع لوزارة الخارجية الفرنسية، فى كتابه الضخم بعنوان «عشرون عامًا قلبت موازين العالم»، التحولات العالمية الضخمة التى شهدها العالم خلال الفترة من ١٩٨٩ إلى ٢٠٠٨.
يقول تييرى دو مونبريال: «مع اندلاع حرب الخليج وانتشار الفوضى فى الاتحاد السوفيتى والتمزق فى يوغوسلافيا، اكتسبت الحقبة التى تمتد من يوليو ١٩٩٠ وحتى يوليو ١٩٩١، ثراء خاصًا بما يتضمنه من أحداث عالمية مهمة، فجميع هذه التقلبات ترجع إلى مصدر واحد وهو التغيير الذى طرأ على النظام الدولى نتيجة لانهيار الإمبراطورية السوفيتية».
لقد استأثرت القضايا الأوروبية على اهتمام الدول الكبرى، فلم يعيروا للأزمة التى كانت تتطور منذ عدة شهور، بين العراق والكويت، الاهتمام الذى كان جديرًا بها، ولهذا السبب، أصيب العالم بالذهول عندما قامت قوات صدام حسين يوم الثانى من أغسطس عام ١٩٩٠ بغزو الكويت.
ولتحليل كبرى الأحداث، ينبغى دائمًا التفرقة بين الأسباب الجوهرية والأسباب المباشرة. إن حدود الشرق الأوسط الحالية، مثلها مثل حدود أوروبا، هناك دول مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا تعد دولًا مصطنعة بشكل كبير، فقد تم إعداد الخارطة السياسية بالكامل لهذه المنطقة دون مشاركة الشعوب المعنية.
لقد استمر النزاع بين العراق والكويت فى التفاقم مع تصاعد الأهمية الاقتصادية للبترول، فلقد اتفقت كل من إيران والعراق على توجيه اللوم لكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، بخضوعها فقط للمصالح الغربية التى تتزعمها الولايات المتحدة.
إلا أن هذا الاتفاق لم يمنع التنافس بين بغداد وطهران فى الهيمنة على الإقليم، فنحن نعرف جيدًا كيف استغل صدام حسين فرصة سقوط شاه إيران، واعتبر أن اللحظة المناسبة قد حانت للإطاحة بغريمه.
وبعد مرور ثمانى سنوات على هذا الصراع ، عندما اضطر الخومينى إلى وقف إطلاق النار، برزت العراق تدريجيًا باعتبارها الطرف المنتصر فى الحرب، بينما كان الجميع يعتقد آنذاك أن نتيجة الحرب كانت سلبية للطرفين، وبدلًا من التوقف عند هذا الحد، استمر صدام حسين فى زيادة تسليح جيشه، وقد لفت العديد من المراقبين الأنظار إلى هذه المسألة، إلا أن القادة السوفيت وقادة أوروبا الغربية لم يعيروا الأمر اهتمامًا ولم يتحركوا لتغيير مجرى الأحداث.
إن السبب المباشر، فى واقع الأمر، لهذه الأزمة كان النزاع حول تحديد سعر البترول، كما أن الزعيم العراقى كان يريد من الشيخ جابر الصباح أمير الكويت، إعادة ترسيم للحدود بين البلدين لإعادة تقسيم حقول البترول، وكذلك تخفيض لديون تبلغ قيمتها ١٥ مليار دولار، قام باقتراضها من الكويت خلال الحرب ضد إيران. إلا أن أمير الكويت أساء التصرف، فى هذا الموقف، كما كان دائمًا فى مواقف أخرى. لقد رأى صدام حسين، دون شك، أن انهيار الاتحاد السوفيتى والثورة فى دول أوروبا الشرقية، تعتبر فرصة ذهبية له لتحقيق الحلم العراقى الكبير، وهو الاستيلاء على الخليج العربى وثرواته.
أكان يعتقد أنه سيستطيع البقاء فى الكويت أو ربما يتمكن من توسيع دائرة تطلعاته ليصل إلى المملكة العربية السعودية؟ وهناك احتمال وارد آخر وهو أنه كان ربما يستعد للتفاوض على الانسحاب مقابل إعادة ترسيم للحدود، مع منحه حرية المرور فى الخليج وإعادة تقسيم لحقول البترول، فضلًا عن إلغاء الديون. هذا ما كان سيحدث ربما لو أن الولايات المتحدة تركت «الحل العربى» يسير فى مجراه إلا أنه كان مثارًا لكثير من الجدال فى الأيام التى أعقبت الغزو.
كان صدام حسين قد أعد لهذا الغزو دون حساب، لرد فعل الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب وتصميمه على إعادة الوضع إلى ما كان عليه، مستبعدًا أى حلول وسط. وقد كان هذا التعنت مناقضًا لموقف الإدارة الأمريكية المتجاهل للوضع خلال الأسابيع التى سبقت الغزو، حتى إن بعض المراقبين قد ذكروا أن واشنطن كانت تنصب الشراك لصدام حسين لإسقاطه.
ولكن فى المقابل، يمكننا أن نعتقد أن رئيس الولايات المتحدة كان ينظر للفائدة التى كان يمكنه اغتنامها من هذا الموقف، فقد كان يتعين عليه حشد قوة تحالف مضادة لصدام حسين تتحرك تحت مظلة الأمم المتحدة، والحصول على موافقة دول المنطقة وحشد المعدات العسكرية التى تضمن التفوق، وفى حالة الاضطرار لإعلان الحرب ، بمعنى إذا لم ينسحب صدام حسين، واشنطن كانت تأمل بالطبع سقوطه سريعًا، فإن الحرب يجب أن تكون سريعة وقليلة الخسائر البشرية لتجنب التورط السياسى.
لقد استطاع الرئيس بوش تحقيق أهدافه ببراعة مذهلة، أما جورباتشوف، الذى كان منهمكًا فى مشكلاته الضخمة، فقد فضل الانضمام لمعسكر الدول المحايدة.
قد كان لواشنطن، فى المنطقة، الطرق الكافية للضغط على الملك فهد والرئيس مبارك للحصول على تأييدهما. وفيما يتعلق بتركيا، فقد فهمت هى الأخرى كيف يمكنها استغلال الموقف لتأكيد أهميتها داخل حلف شمال الأطلنطي، فمشكلتها مع الأكراد لم تكن تمكنها من ذلك، فى الواقع، أما إيران، فلم تكن تطمح من هذه المعركة إلا بإسقاط صدام حسين، دون التصريح بذلك.
كان تصميم الولايات المتحدة على هذه الحرب مسألة حيوية بالنسبة إلى إسرائيل، ففى حالة انتصار صدام حسين، كانت الدولة اليهودية ستجد نفسها فى مواجهة قوة عسكرية خطرة تجلس على ثروة هائلة من آبار البترول، فقد كانت مصالح الدولة اليهودية تتمثل فى إضعاف قوة العراق بواسطة الحرب، شريطة أن تظل بعيدة عن الأنظار، وألا تجد نفسها، فى مرحلة السلام بعد انتهاء الحرب، خاضعة لضغوط شديدة. وفى المجال العسكري، تمكن رئيس الولايات المتحدة من الحشد، ضد العراق هذه الدولة الصغيرة المعزولة سياسيًا والتى تخضع لعقوبات فعالة، مستوى من القوى كان يمكن أن تؤثر فى الاتحاد السوفيتى نفسه وهو فى أوج عظمته.
وعندما أعلن جورج بوش عن تصميمه، اتبع فى البداية ثلاثة أهداف: أولًا: منع العراق من التحكم فى البترول، ثانيًا: تعزيز القيادة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وثالثًا: تأكيد مبادئ عدم انتهاك، بل وعدم المساس بالحدود العراقية الكويتية. وبهذه الأهداف كان بوش يحمى مصالح الولايات المتحدة، وكذلك حماية حملتها فى الخليج باسم المبادئ والأخلاق.
وهذا الجانب كان يصعب قبوله من جانب بعض الشعوب التى تعانى اللامبالاة العامة، وكذلك من قبل من يرون، أن القانون الدولى بصفة عامة، وقرارات مجلس الأمن بصفة خاصة، تطبق بنوع من التمييز. بيد أنه على أرض الواقع، تنتصر دائمًا العاطفة على العقل، وتكمن المهارة السياسية فى توجيه وترشيد عاطفة الرأى العام، ولكن صدام حسين لم ينجح فى محاولاته تعبئة الرأى العام العربى بتوجيه الأنظار بصفة خاصة نحو إسرائيل.