رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من التاريخ إلى فلسفة التاريخ «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما المقصود بدراسة «التاريخ»؟ وهل تستحق هذه الدراسة كل ما تبذله الأمم والحضارات فى سبيلها من عناء وجهد؟ وهل يستدعى مضمون 
«التاريخ» الغور فى أعماقه إلى هذا الحد؟ وما الذى يمكن أن نفيد به من دراسة «التاريخ» وكتابته؟ وفى محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات يحسن بنا أن نشير أولًا، إلى ما يمكن أن تدل عليه كلمة «التاريخ».
تدل كلمة «التاريخ» على معانٍ متفاوتة، فيعتبر بعض المؤرخين أن «التاريخ» يشتمل على المعلومات التى يمكن معرفتها عن نشأة الكون كله، بما يحويه من أجرام وكواكب ومن بينها «الأرض»، وما جرى على سطحها من حوادث بشرية. لكن يقصر أغلب المؤرخين معنى «التاريخ» على بحث واستقصاء حوادث الماضى، كما يدل على ذلك لفظ Historia المستمد من الأصل اليونانى القديم، أى كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض؛ بتسجيل أخبار الحوادث أو وصفها التى ألمَّت بالشعوب والأفراد. وقد تدل كلمة «تاريخ» أيضًا على مطلق مجرى الحوادث الفعلى الذى يصنعه الأبطال والشعوب، والتى وقعت منذ أقدم العصور، واستمرت فى الزمان والمكان وتطورت حتى الوقت الحاضر. 
معنى هذا، أن الكلمة ذاتها تـُطلق على الماضى الإنسانى تارة، وتارة أخرى تطلق على الجهد المبذول لمعرفة ذلك الماضى ورواية أخباره، أو العلم المعنِى بهذا الموضوع. ويظهر أن الذهن البشرى ينتقل بين المعنيين دون تمييز دقيق بينهما. فنحن نرى هذا اللبس ذاته فى اللغات الأجنبية، فكلمة Historie الفرنسية، وHistory الإنجليزية، وGeschichte الألمانية تستعمل للمعنيين على السواء، إذ يراد بكل منها أحيانًا حوادث الماضى، وأحيانًا أخبار هذه الحوادث أو العلم الذى يحققها. وقد حاول بعض الباحثين الغربيين محاولات شتى للتمييز بين المعنيين: فأطلق البعض على كلمة Historien «التاريخ» الدال على أحداث الماضى، ودخلت اللغة الألمانية عن طريق اللغة اللاتينية فى القرن الثالث عشر بكلمة Historia لتعنى العلم الذى يحقق أحداث الماضى.
أما الكلمة الألمانية Geschichte، وهى كلمة ألمانية قومية، ومشتقة من الفعل Geschehen بمعنى يعمل أو يحدث أو يقع، تعنى أصلًا «حدث» أو سلسلة من الأحداث، لكنها ابتداء من القرن الخامس عشر تساوت مع كلمة «التاريخ» Historie، وأصبحت تعنى الرواية أو التقرير. ومع نمو البحث التاريخى والمعرفة التاريخية فى القرن الثامن عشر، أصبحت تعنى «التاريخ» بوصفه بحثًا منظمًا للأحداث الماضية. 
وفى اللغة العربية، فإن الفعل من المصدر «تأريخ» هو «أرخ» فى لغة قيس، بينما فى لغة تميم «ورخ». وقيل إن «التاريخ» الذى يؤرخه الناس ليس بعربى محض، وإن المسلمين أخذوه عن أهل الكتاب، و«تاريخ» المسلمين أرخ من زمن الهجرة، كُتب فى خلافة «عمر، فصار تاريخًا إلى اليوم. وهناك فرق كبير بين كلمة «تاريخ» بالألف اللينة (دون همزة على الألف)، التى تدل على الماضى ذاته، وكلمة «تأريخ» بهمزة عليها والتى تدل على دراسة الماضى.
وكلمة «تأريخ» هى تعريف مباشر للكلمات «ماه روز» الفارسية، والتى تعنى حساب الشهور والأيام، أو التوقيت الزمنى الذى يتم حسابه بناءً على ظهور القمر واختفائه. ويلحظ «فرانز روزنتال» أن كلمة «تأريخ» لا تظهر فى الأدب الجاهلى، كما أنها غير مذكورة فى القرآن الكريم ولا فى الأحاديث النبوية الشريفة. وهو يرجح أن أصولها مستمدة من الكلمة السامية التى تعنى القمر أو الشهر، وهى فى الأكادية «أرخو»، وفى العبرية «يرخ».
على أن هناك فى اليونانية كلمة Archê «أرخى» بمعنى بداية أو حكم، و«أرخايوس» Archaios بمعنى قديم، معنى هذا أن «التاريخ» هو ذكر لقديم الأحداث والأخبار وبداياتها. ويسمى علم الآثار القديم بــ «الأركيولوجيا» Archelology، ويُسْتـَعمل اللفظ اليونانى بعد دخوله اللغات الأوروبية بمعنى «الأصل» أو «الأصيل»، فيقال Archtype أى النموذج الأوَّلى أو الأول، أو لفظ Archbishop بمعنى الأسقف الكبير؛ وكان يراد به الأسقف الأصيل ومن بعده يتبعه. وفى مصطلح الديانة المسيحية يُوْصَف جبريل بأنه «الأركانجل» Arcangel وأصله Archangel.
و«التاريخ» و«التأريخ» و«التوريخ» يعنى -كما يقول المؤرخ العربى «السخاوى»- «الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشىء على غايته ووقته الذى ينتهى إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين والتوقيت وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحوالهما المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة للإنسان وفى الزمان». ويقول أيضًا: «التاريخ هو التعريف بالوقت الذى تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة عقل وبدن، ورحلة وحفظ وضبط وتدقيق وتجريح، وما أشبه هذا مما مَرجعُه الفحص عن أحوالهم فى ابتدائهم وحالهم واستقبالهم، ويلتحق به ما يتفق فى الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملِمَّة وتجديد فرض، وخليفة ووزير وغزوة وملحمة وحرب وفتح بلد وانتزاعه من متغلب عليه، وانتقال دولة. وربما يُتوسَّع فيه لبدء الخلق وقصص الأنبياء، وغير ذلك من أمور الأمم الماضية، وأحوال القيامة ومقدماتها... أو دونها كبناء جامع أو مدرسة أو قنطرة أو رصيف أو نحوها مما يعم الانتفاع به مما هو شائع مُشاهد، أو خفى سماوى كجراد وكسوف وخسوف، أو أرضى كزلزلة وحريق وسيل وطوفان وقحط وطاعون... وغيرها من الآيات العظام والعجائب الجسام».
ويرى «السخاوى» أن «التاريخ» لا يمكن أن ينفصل عن غيره من سائر العلوم الأخرى، خاصّة علم «السياسة» و«الأخلاق» و«تدبير المنزل»، وهو يقول: «يستفاد من أنباء هذا الفن، ما لعله مندرج فى علوم أخرى كــ «علم السياسة»، وهو «العلم الذى يذكر فيه أخبار الملوك وسياساتهم، وأسباب مبادئ الدول ثم سبب انقراضها وتدبير أصحاب الجيوش والوزراء، وما يتصل بذلك من الأحوال التى يتكرر مثلها وأشباهها فى العالم». و«علم الأخلاق» الذى «يعلم منه أنواع الفضائل، وكيفية اكتسابها وأنواع الرذائل وكيفية اجتنابها». و«علم تدبير المنزل» الذى «يعلم منه الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجه وبلده وخدمه ووجه الصواب فيها». ويسير على هذا النهج «الكافيجى» فى تعريفه لــ «التاريخ» بأنه «علم يبحث فيه عن الزمان وأحواله وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته»... وفى المقال المقبل نكمل..