الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

خطاب العنف والدم.. ابن حنبل نموذجًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم يكن أحمد بن حنبل فقيهًا، صاحب مذهب فقهى بل كان حافظا محدثا، ليس هذا كلامنا بداية بل هو كلام ابن جرير الطبرى شيخ المفسرين وإمامهم فى كتابه "اختلاف الفقهاء"، حيث لم يذكره من بين الفقهاء كما لم يذكره غيره ممن تحدثوا أو صنفوا كتب حول اختلاف الفقهاء، ورغم ذلك وبقوة السياسة والسلطان أصبح ابن حنبل فقيها وصاحب مذهب، بل وساد مذهبه وحكم وهيمن على العقل العربى فترة ليست بالقليلة نعانى آثارها حتى الآن، فلقد أهدى ابن حنبل الأمة تراثا هو عبارة عن مجموعة من القنابل الموقوتة المزروعة فى العقل السلفى، التى تنفجر فى أى لحظة فى المخالف له، تلك القنابل التى استثمرها الحكام فى كثير من الأوقات وكذلك تم استثمارها من قبل تلك الجماعات المريضة فى تفتيت وحدة المسلمين وتفكيك دولهم بالإرهاب.
يقول ابن حنبل فى مقدمة الرسالة: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها. المقتدى بهم من لدن أصحاب النبى "صلى الله عليه وسلم" إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز والشام وغيرهم، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب على قائلها، فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق.
تلك أول قنابل ابن حنبل الموقوتة والتى تحجر على العقل الإنسانى الاجتهاد فى أمور دينه وتثبيته عند لحظة تاريخية لا يستطيع مجاوزتها، ما أدى إلى تكلس هذا العقل السلفى ودورانه فى فلك ما أنتجه القدماء وأصبح العلم هو اختصار الشروح أو شرح الشروح وإعادة انتاج للقديم دون أى تطور حادث للفكر العربي.
يستطرد ابن حنبل فى رسالته محددا موقفه من الحكام، فيقول "ولا تخرج على السلطان وتسمع وتطيع ولا تنكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة"، ويستكمل "ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه فى النار لذنب ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك فى حديث كما جاء على ما روى فنصدقه، والكف عن أهل القبلة ولا تكفر أحدًا منهم بذنب ولا تخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون فى ذلك حديث كما جاء وكما روى وتصدقه وتقبله، وتعلم أنه كما روى نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو ابتدع بدعة ينسب إلى صاحبها الكفر والخروج من الإسلام، فاتبع الأثر فى ذلك ولا تجاوزه، فإن احتج مبتدع أو زنديق بقوله عز وجل "كل شيء هالك إلا وجهه"، وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك، وهما من الآخرة لا من الدنيا، والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدا، لأن الله -عز وجل- خلقهن للبقاء لا للفناء، ولم يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل سواء السبيل".
فلا خروج على الحاكم بأية حال حتى لو ظلم وفسق، وهذا ما استندت إليه الدعوة السلفية فى بدايات ما أطلق عليه الربيع العربى بتحريم الخروج على الحكام، وحين المصلحة تم التراجع عن هذه الدعاوى والفتاوى التى تمسكوا بها من قبل فى سبيل نيل عدد من مقاعد البرلمان وتكوين الأحزاب السياسية "الدعوة السلفية فى مصر خير دليل على هذا".
يستكمل ابن حنبل فى كتابه "زرع تلك القنابل الموقوتة" بقوله: "ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمى كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم، ومن سب أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أو أحدا منهم، أو تنقصهم أو طعن عليهم أو عرض بعيبهم أو عاب أحدا منهم، فهو مبتدع رافضى خبيث مخالف، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.
وبهذا، لا يحق لأحد أن يجادل فى أى صحابى حتى لو ارتكب المعاصى وقتل المسلمين وارتكب المجازر بحق هذا الدين، والتاريخ الإسلامى مليء بمخالفات الصحابة لصحيح القرآن ومخالفتهم للنبى فى كثير من المواقع وسورة التوبة خير دليل على تقريظ القرآن لهم، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يؤسس ابن حنبل فى هذا النص لتقديس الصحابة وعلو مكانتهم ووضعهم فى موضع الآلهة لا البشر، وكأنه تناسى أو نسى أنهم رجال يصيبون ويخطئون، ولنا دلائل شتى وأكثر دليل على أنهم ليسوا قديسين محاربتهم بعضهم البعض من أجل السياسية والحكم والتى كانت بداياتها موقعتا الجمل وصفين.
ولم يقف ابن حنبل عند هذا الحد، بل حصن آراء الفقهاء والأئمة وجعلهم فى مقام القديسين، حيث يقول "والدين إنما هو كتاب الله -عز وجل- وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات بالأخبار الصحيحة القوية المعروفة بصدق بعضها البعض، حتى ينتهى ذلك إلى الرسول وأصحابه والتابعين وتابعى التابعين ومن بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم المتمسكين بالسنة والمتعلقين بالآثار، لا يعرفون بدعة ولا يطعن فيهم بكذب، ولا يرمون بخلاف، وليسوا بأصحاب قياس ولا رأى لأن القياس فى الدين باطل، والرأى كذلك أبطل منه، وأصحاب الرأى والقياس فى الدين مبتدعة ضلال، إلا أن يكون فى ذلك أثر عمن سلف من الأئمة الثقات".
هكذا حرم ابن حنبل القياس المعمول به فى الفقه الإسلامى، وكذلك حرم الرأى الذى هو فتوى وكان المجتمع سوف يتجمد عند اللحظة التى كان يعيش فيها، فلم يكن هناك تطور فى الحياة الاجتماعية ما يحتاج إلى إنزال أحكام جديدة للحوادث الجديدة، هذا الذى أصاب العقل الإسلامى فى مقتل وحرم التفكير على المجتمع، وبالتالى تجمد العقل الإسلامى منذ ابن حنبل وحتى بدايات القرن التاسع عشر، حينما اصطدم العقل العربى والإسلامى بالحداثة الأوروبية.
ويستكمل ابن حنبل تأسيسه للعقيدة السلفية والحجر على العقل الإسلامى بقوله "ومن زعم أنه لا يريد التقليد ولا يقلد دينه أحد: فهو قول فاسق عند الله ورسوله "صلى الله عليه وسلم" إنما يريد بذلك إبطال الأثر وتعطيل العلم والسنة، والتفرد بالرأى والكلام والبدعة والخلاف، وهذه الأقاويل التى وصفت مذهب أهل السنة والجماعة والآثار وأصحاب الروايات وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث وتعلمنا منهم السنن وكانوا أئمة معروفين ثقات أصحاب صدق يقتدى بهم ويؤخذ عنهم ولم يكونوا أصحاب بدعة ولا خلاف ولا تخليط وهو قول أئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم، فتمسكوا بذلك وتعلموه وعملوه".
ويستكمل ابن حنبل هجومه على أصحاب الرأى وتلغيم الطريق أمام العقل الإسلامى بقوله "وأصحاب الرأى وهم مبتدعة ضلال أعداء للسنة والأثر يبطلون الحديث ويردون على رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ويتخذون أبو حنيفة ومن قال بقوله إماما، ويدينون بدينهم، وأى ضلالة أبين ممن قال بهذا أو ترك قول الرسول وأصحابه، فكفى بهذا غيا مرديا وطغيانا.. فمن قال بشيء من هذه الأقاويل -أقوال الاتجاهات الأخرى- أو صوبها أو رضيها أو أحبها فقد خالف السنة وخرج من الجماعة، وترك الأثر، وقال بالخلاف، ودخل البدعة وزال عن الطريق".
وهنا ينفى ابن حنبل مذهبا فقهيا كاملا من مذاهب أهل السنة ويخرجه من الإسلام، لأنه استخدم الرأى وهو مذهب الإمام أبو حنيفة، ولم يقف ابن حنبل عند إخراج أصحاب الرأى، وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة من أهل السنة والجماعة بل وصفهم بأنهم أعداء الله، ما يبيح دمائهم وأموالهم ونسائهم، حيث يقول "وأما أصحاب الرأى فيسمونهم حشوية وكذب أصحاب الرأى أعداء الله، بل هم الحشوية تركوا آثار الرسول وحديثه وقالوا بالرأى وقاسوا الدين بالاستحسان، وحكموا بخلاف الكتاب والسنة وهم أصحاب بدعة جهلة ضلال وطلاب دنيا بالكذب والبهتان".
وقد حمل تراث ابن حنبل جيلا كاملا من الحنابلة يساندهم قطاع من عوام بغداد انطلق يرهب الناس والمخالفين، رافعا راية التكفير والزندقة فى مواجهتهم تلك الأسلحة الفتاكة التى قضت على أى بارقة نور فى الفكر الإسلامي، وقويت شوكة الحنابلة بعم السلطان "المتوكل العباسي" ومن بعده خلفاء بنى العباس الذين عملوا على استثمارهم فى تقوية نظام حكمهم وتصفية معارضيهم، وقد كثرت اعتداءات الحنابلة على العامة والنساء فى الطرقات والتفريق بينهما فى الأسواق ومهاجمة الأسواق لمنع الاختلاط ومقاومة البدع، وهذا ما يفعله السلفيون الآن فى الجامعات والمحافل، وما يطالبون به فى قنواتهم ووسائلهم الإعلامية.
وكما كان الحنابلة قديما لا يوجهون قذائفهم وفتاواهم التكفيرية للحكام، لأن عقيدتهم عقيدة حكومية فى المقام الأول وتعمل لصالح الحاكم لا المحكومين، ولأن هذه العقيدة فرضت على الناس من قبل الحكام، يقوم السلفيون اليوم بنفس المسألة فلا يعارضون الحكام ويدورون فى فلكهم ويصوبون قذائفهم وفتاواهم فى صدور الناس خصوصًا المفكرين منهم.