ما زال المشهد الوطنى جاذبًا لقراءة متأنية على إثرها يمكن التماس أوجه القصور، ومناحى الإجادة، فى خطواتنا صوب بناء «دولة مدنية حديثة» تحمل على عاتقها تجسيد الطموحات الشعبية المشروعة التى عبرت عنها الملايين الثائرة فى الخامس والعشرين من يناير، والثلاثين من يونيو، على السواء.
فواقع الأمر أن ركائز الدولة المدنية الحديثة، الديمقراطية والعلمانية والمواطنة، ليست إلا جوهر القيم التى أعلت من شأنها الثورة المصرية، يناير ـ يونيو، على حساب ما عداها من قيم رديئة، الفساد واحتكار السلطة وتأميم القضايا الوطنية الأساسية، التى طالما ألقت بالوطن إلى الخلف لعشرات السنين، رغم ما تتمتع به الدولة المصرية من عناصر قوة.
فى هذا السياق، يجدر بنا رصد مجموعة جديدة من الملامح الوطنية، عسى بها أن نصحح بعضًا من مواقفنا، ونستعدل شيئًا كثيرًا من رؤانا القاصرة عن مسايرة ما أنتجته «الدولة المدنية الحديثة» من قيم حين رسخت فى كثير من المجتمعات المتقدمة؛ ذلك أن محاولات نبذلها فى سبيل بناء «دولة مدنية حديثة» بأدوات وآليات الماضى السقيم ما عاد لنا أن نتوقع لها أى نجاح يُذكر؛ ومن ثم فإن السير على نهج لطالما اتبعناه حين احتجزنا الوطن بعيدًا عن كل تطور سياسى، لا يمكن أن ندعى به أن ارتفاعًا حقيقيًا نحققه فى بناء «الدولة المدنية الحديثة».
وليس من شك أن الخطاب المجتمعى شديد الدلالة على ما بلغه أى مجتمع من نمو وتطور، وما أنجزه بالفعل على طريق «الدولة المدنية الحديثة»؛ وعليه أود الإشارة إلى كثير من السلبيات الرائجة فى خطابنا المجتمعى، كاشفة عن قصور فى الرؤى، ونقص فى إدراكنا للمحتوى القيمى لـ «الدولة المدنية الحديثة»، فضلًا عن هشاشة ما نملكه من قناعات تمس صميم قيم «الدولة المدنية الحديثة» التى أقرتها المجتمعات المتقدمة. من هنا أقول:
• ليتنا نكف كثيرًا عن خطاب ساذج يُفاضل بين الديمقراطية، وما تعنيه من قيم إنسانية سامية شتى ومنها حرية الرأى والتعبير، وبين مجابهة الإرهاب. فواقع الأمر أننا بذلك نظل أسرى أفكار خطاب مجتمعى جامد لم يلحق أبدًا بتطور الفكر السياسى المعاصر، ولم يدرك أسباب تقدم المجتمعات. إذ من قال إن وقف المعارضة، وتكتيف الألسنة، وتهميش الآخر، مكن مجتمعات من التقدم وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة، فضلًا عن نجاحها فى مواجهة الإرهاب؟.
• «الدولة المدنية الحديثة» لا تعرف أبدًا صيغة «الكل فى واحد» السائدة فى خطابنا المجتمعى، للتدليل على وحدة الصف فى مواجهة ما يمر به الوطن من تحديات، وما يواجهه من مخاطر. والواقع، بل وما تشير إليه التجارب الناجحة، أن «التعددية» جوهر «الدولة المدنية الحديثة» لما تحققه من عدالة اجتماعية، وما تؤكده من رشادة الحكم، وما تُبشر به من سمو الثقافة المجتمعية عن كثير من دواعى الفساد واحتكار السلطة.
• هل لنا إذن أن نؤكد أن الظروف الاستثنائية التى يمر بها الوطن لا يمكن تجاوزها بعيدًا عن قناعات ديمقراطية حقيقية، بموجبها ندرك الدور البارز لكل صوت وطنى معارض، مثلما نُعلى من كل صوت مؤيد على طول الخط، وإن لم يمتلك أسبابًا موضوعية وجيهة تدفع به إلى الصفوف الأولي.
• الصدام الأخير بين رئيس مجلس النواب ومؤسسة الأهرام، ليس إلا الامتداد الطبيعى لضعف المحتوى الديمقراطى فى خطابنا المجتمعي. إذ ليس البرلمان، افتراضًا، إلا التعبير الأقوى عن موقف الديمقراطية فى أى مجتمع؛ ذلك أن البرلمان نبت ديمقراطى بالأساس، فإذا ما ضاق بالرأى الآخر، وتكبر بما لا يملك، ضلت التجربة الوطنية طريقها صوب «الدولة المدنية الحديثة». وإذا ما بلغ الخطاب حدودًا تجاوزها بالفعل رئيس البرلمان، ضاق الأفق أمام تطلعاتنا فيما يمكن أن ينتجه البرلمان من مكتسبات تتفق ودستور ٢٠١٤ الذى عبر بالفعل عن قيم ومبادئ ما زالت إلى الآن رهن البحث.
• محاولات تسييس النقابات المهنية، ليست جديدة على المجتمع المصرى، فكثيرًا ما كانت نقابات بعينها محسوبة على جماعة الإخوان، وغيرها يُحسب فى خانة الحزب الوطني. من هنا ليس غريبًا أن تتعرض نقابة الصحفيين لضغوط من هنا أو من هناك لتوجيه دفة انتخاباتها المنوط بها التمديد للنقيب الحالى أو اختيار غيره؛ فنقابة الصحفيين شديدة الصلة بالواقع السياسى، باعتبارها منبرًا وطنيًا يشير بقوة إلى مدى ما بلغناه من تقدم على طريق ديمقراطية المجتمع، وليس النظام فحسب. لكن الأمل فى حرص الجماعة الصحفية على أن تظل قضايا المهنة غالبة على ما عداها من أمور سياسية تتعلق بمصالح خارجة عن الإطار المهنى الأصيل، وما يضمه من سياسات تدفع إلى تطوير المهنة وحماية مصالح أبنائها، لما فى ذلك من مصلحة وطنية.
• وتمهيدًا للانتخابات الصحفية لاحظنا أن استثمارًا كبيرًا، يُسيء ولا يفيد، للصدام بين القيادات الراهنة للنقابة ووزارة الداخلية، والذى بلغ مداه إلى ساحات المحاكم، فى شهادة بالغة على افتقادنا سُبل الحوار الواعى بين مؤسسات الدولة، ولو انتصارًا للمسئوليات الوطنية الشاقة الملقاة على عاتق الجميع. وواقع الأمر أن المزايدة على الوطنية، تجد أقسى صورها حين تأتى من أصحاب القلم، وما كان لها أن تشق صف الجماعة الصحفية، فتضعف من مصداقيتها، وتسحبها بعيدًا عن دورها التنموى فى مرحلة دقيقة، يُفترض فيها أن ينهض الرأى العام بدور كبير فى صناعة واتخاذ القرار.
• على نفس الأسس الرديئة تأسس الجدل حول تصاعد الدور الاقتصادى للمؤسسة العسكرية. وراح الأمر يتطور إلى حدود كاشفة لضعف إدراك البعض لطبيعة ومقتضيات الدور التنموى للمؤسسة العسكرية، وكيف أن الأمر يجد صداه فى كثير من المجتمعات، خاصة التى ما زالت تعمل فى إطار بلورة رؤية وطنية لـ «الدولة المدنية الحديثة». فليس من شك أن ما تقوم به المؤسسة العسكرية من خطوات واسعة، اقتصاديًا واجتماعيًا، إنما يشكل عبئًا كبيرًا على أبنائها، وعلى أعباء أدوارهم الرئيسية فى الدفاع عن الوطن، لكنه بالقطع يدخل فى إطار دورها المسئول عن حماية الأمن القومى للوطن. وهو دور لا يمكن الاسغناء عنه فى ظل هشاشة الكثير من مؤسسات الدولة، وما يعتريها من فساد بلغ مداه على مدى عقود طويلة. ومن ثم فإن قيم الانضباط والالتزام والشفافية التى توفرها المؤسسة العسكرية بإشرافها على كثير من المشروعات القومية، إنما تشكل مرحلة حتمية وسيطة إلى أن ترسخ قيم «الدولة المدنية الحديثة»، ومعها تكتمل الثقة فى المؤسسات المدنية وقدرتها على إنجاز مهامها على نحو يتسق ومسئولياتها الوطنية. وهو أمر ليس بالقريب؛ إذ تحتاج الثقافة المجتمعية إلى تراكمات شتى إلى أن ترسخ قواعد «الدولة المدنية الحديثة»، تلك الدولة التى لا تفتقر أبدًا لدور تنموى تنهض به المؤسسة العسكرية، وفق حاجة وظروف كل مجتمع.
• لا شك أن إشكالية كبيرة تحيط برئيس الوزراء، المهندس شريف إسماعيل، فلا هو خبير اقتصادى دولى مشهود له، ولا هو أكاديمى كبير، ولا هو رجل سياسى يتمتع بشعبية وشهرة، وهو كذلك ليس بالخطيب المفوّه الذى لا يُشق له غبار، ولا هو ذو أداء شعبى، لاحظ محلب مثلًا. ويزيد من صعوبة موقف الرجل أمام الرأى العام، ما فى تجربتنا الوطنية من رسوخ لفكرة رئيس الوزراء الاقتصادى، فضلًا عن تسيد الملف الاقتصادى للمشهد الداخلى، بعد اختفاء السياسة لسنوات تمتد لأبعد من مسئوليات النظام الحالى، بعد احتكارها لثلاثة عقود داخل سياج نظام مبارك العتيد. غير أن تصريحًا رئاسيًا يعتلى المشهد مفاده أن شريف إسماعيل ما زال يحتفظ بثقة الرئيس، فلتكن إذن «حكومة الرئيس»، محسوبة عليه، خصمًا وإضافة.. وإلى الإسبوع المقبل بإذن الله.