"نظام دون قوة"، هكذا يرى جوزيف برودون، مُنظر الفوضوية في العالم، فكرة الدولة.. هو يراها كيانًا إكراهيًا يُصدر القوانين المقيدة لحمايتها وليس لصالح المجتمع، فالدولة من وجهة نظرة ونظر مؤيديه كيان تأديبي أو عقابي، توقع عقوبات شديدة على هؤلاء الذين يخرقون قوانينها، فضلًا عن أنها كيان استغلالي، تستخدم قوتها في فرض الضرائب والتنظيم الاقتصادي؛ لتمويل الموارد من مراكز الثروة إلى خزانتها.
للأسف هذه الأفكار وجدت طريقها منذ زمن لعدد ليس بقليل من الناشطين
في مصر، الذين أصبحوا في زمن ضعف السياسة والسياسيين النموذج الأعلى للشباب، حيث
يسعى الجميع إلى الاحتذاء به والتحرك حسب بوصلته، فهو مالك صك الثورية وصاحب
الميدان.. يُحرك الأحزاب وشبابها نحو الصدامات التي يرغب بها ويُحددها هو رغم أنها
في أحيان كثيرة ضد السياسة والمنطق.. ناجح جدًا في إحراج الدولة وأجهزتها الأمنية
وهو ما حدث في طلعت حرب حينما قرر الخروج للاعتراض على قانون التظاهر.. رغم أن
السؤال المُلح هو: ما البديل؟، ولماذا لا يقدم اقتراحًا لتعديل القانون بشكل يحترم
الدولة ومؤسساتها التي يجاهد الجميع في إعادة بنائها مرة أخرى بأقل الخسائر؟.
بالطبع أتفهم موقف الرافضين للتعامل العنيف وغير المهني من بعض
أفراد الشرطة ضد المتظاهرين، فلا يوجد مَن يقبل أو يتمنى أن تعود أي تصرفات تقود
الناس إلى كراهية جهاز الشرطة مرة أخرى.. ولكني لم أتفهم على الإطلاق أن يقوم شباب
يقول عن نفسه إنه ثوري ومثقف وواعٍ بالنزول لاختبار الدولة واختبار جهاز كلنا نعرف
مستواه ومشاكله وأزماته، وهو ما يعني أنهم مُصرون على الصدام مع جهاز الشرطة، رغم
أنه لايزال يتعافى ويتعرض أفراده للقتل العشوائي من جماعات إرهابية كانت حتى وقت
قريب شركاء الثورة والميدان.
يحزن أصحاب القضايا الكبرى والثورة حينما يتم اتهامهم بالعمالة
والخيانة.. ومَن لا يحزن.. لكنه لا يُترك لأحد خيار في تصنيفه، فهو لا يريد أن
يتوقف عن السير في طريق يتقاطع مع ما يفعله المتآمرون على الوطن.. أين الأجندة
الوطنية؟ أين الأولويات؟ أين السياسة؟ أين الخوف على أمن واستقرار البلاد بعد
ثلاثة أعوام من الفوران والتخريب وانعدام الأمن والاستقرار؟.
الأزمة لا تطول الشباب فقط، ولكن تطول أيضًا الحكومة، فقد وعدت
بدراسة مشروع التظاهر وعرضه على القوى السياسية قبل إصداره.. ثم نفاجأ بأنه صدر،
وهناك اعتراضات عليه.. ثم تتراجع تحت ضغط الأصدقاء والحلفاء بعد الأزمة.. ثم تعود
لتتمسك وتؤكد على دعمها الكامل لجهاز الشرطة.. أين الحكومة؟ أين الأحزاب؟ أين
القوى السياسية؟ ما جدوى التظاهر؟، لن تجد إجابات مقنعة فمازال الصوت العالي
الفارغ هو صاحب اليد الطولى.. والمزايدات الصغيرة تحكم صناعة السياسة المصرية ولا
تعطى الأمل في مستقبل حقيقي لهذه الأحزاب.
وبين صناعة اليأس والإحباط، تستغل الفاشية الدينية أجواء الاحتقان
بين قوى ثورة 30 يونيو لتشعل شرارة "الثورة الثالثة" ضد جهازي الجيش
والشرطة.. لتتقاطع مرة أخرى المسارات مثل 25 يناير.. الجماعات الفوضوية تريد
التخلص من مؤسسات الدولة لتصبح مصر مثلما قال برودون: "نظام بلا قوة"،
ثم يعود تنظيم الإخوان للمشهد مرة أخرى في أحضان الاشتراكيين الثوريين ليقودوا
حربًا ومواجهة مباشرة وانتقامية مع الجيش المصري وجهاز الشرطة، قبل أن يستدير مرة
أخرى لشركاء الثورة ليتخلص منهم لإنشاء دولتهم الجديدة على النمط الإيراني.. فلا
حل أمامه سوى تأسيس دولة جديدة بلا أي أجهزة قادرة على فرملة أحلامه في عودة
الخلافة تحت قيادة الخليفة المنتظر في إسطنبول.
أعتقد أن الشعب المصري لن يقف متفرجًا على هذا الصراع، وسيدافع عن
نفسه وعن تماسك دولته وعدم سقوطها حتى آخر نفس.. من الصعب أن تتحول مصر إلى دولة
الفراغ، أو نظام بلا قوة، والرهان على ثورته من أجل تدمير ما تبقى من دولته خاسر،
يجر كل المراهنين إلى دائرة الخيانة التي لا يمكن أن تتحول إلى وجهة نظر!.