يحتفل الإخوة المسيحيون اليوم السبت، بعيد الميلاد المجيد الذى يوافق السابع من يناير من كل عام، وفى مصر المحروسة «أم الدنيا» طعم خاص للاحتفالات التى تجمع قطبى الأمة مسلمين ومسيحيين على قلب رجل واحد، خصوصًا فى تلك الظروف التى يمر بها الوطن، حيث تأتى احتفالات هذا العام مغلفة بالحزن الذى أصاب المصريين جميعا، على إثر الجريمة الإرهابية التى استهدفت الكنيسة البطرسية بالعباسية فى الحادى عشر من شهر ديسمبر الماضي.
لكن كالعادة تنتصر إرادة الحياة لدى المصريين، وتعلو فوق أى تحديات أو ظروف عصيبة، فرغم عشرات الشهداء والمصابين الذين راحوا ضحايا التفجير الغاشم، تمتلئ الكنائس عن بكرة أبيها بالمصلين، ويشاركهم المسلمون جميع مظاهر الاحتفالات، بداية من التهانى القلبية، مرورًا بتبادل أطباق الطعام بين «أم جورج» و «أم أحمد» اللتين تجسدان المعنى الحقيقى للوحدة الوطنية، وانتهاءً بالخروج للحدائق والمتنزهات.
تلك المشاهد الإنسانية التى عبر عنها الزعيم عادل إمام والفنان العالمى عمر الشريف فى فيلمهما الشهير «حسن ومرقص» لا تراها إلا فى مصر، وهى الدولة الوحيدة التى يشعر فيها المسلمون والمسيحيون ـ فعلًا لا قولًا ـ أنهم نسيج واحد عصى على الاختراق أو التفتيت، وخير دليل على ذلك الأحداث الصعبة التى وضعت الوحدة الوطنية على المحك، فنجح المصريون بامتياز فى تغليب مصالح الوطن على أى شيء آخر.
فعلى مدار العقود الماضية، شهدت مصر أحداثًا تاريخية عديدة أبرزت علاقة التطابق والالتصاق التى تجمع المسلمين والمسيحيين، بداية من ثورة ١٩١٩ التى كشفت معدن الإرادة المصرية القوية التى لا تقهر أبدا، حيث شملت الشعب المصرى بكل طوائفه، وضربت أروع الأمثلة فى ذوبان أبناء مصر فى كيان واحد.
وكان للأزهر والكنيسة دور لا ينكر فى هذه الثورة، ووقف المسلمون والأقباط يعلنون أن مصر لا تعرف تعصبًا، وأن المسلم والمسيحى وحدة خلدتها السنون، وللمرة الأولى فى تاريخ الأزهر يدخل القمص «سرجيوس» بملابسه الدينية إلى صحن الأزهر الشريف، ثم يرتقى منبره ليخطب فى آلاف المصلين منددًا بالإنجليز، وكاشفًا ألاعيبهم التى يحاولون من خلالها أن يفرقوا بين أبناء الشعب الواحد لتحقيق مطامعهم.
وتوالت الأحداث الكبرى التى شهدتها مصر مثل حرب فلسطين فى عام ١٩٤٨ وثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ ثم العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦ ثم نكسة ١٩٦٧ إلى أن جاء انتصار حرب أكتوبر ١٩٧٣، العاشر من رمضان، وفى جميع هذه المواقف المصيرية امتزجت دماء المسلمين والمسيحيين فداءً لتراب الوطن، إلى أن جاءت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ التى أبرزت الروابط الروحية والاجتماعية الرائعة بين عنصرى الأمة على أروع ما يكون حيث خرج الجميع على قلب رجل واحد يرفضون ما وصلت إليه أحوال المجتمع من بطش وفساد وسعى للتوريث، وطلبًا للشعار الخالد «عيش حرية وعدالة اجتماعية»، وخلال أحداث الـ ١٨ يومًا التى جمعت الثوار فى ميدان التحرير تجلت مشاعر الوحدة الوطنية فى أبهى صورها حيث شاهدنا المسيحى يصب ماء الوضوء للمسلم ويؤمن ظهر أخيه أثناء الصلاة.
كما احتشد المسلمون فى كنيسة الدوبارة بميدان التحرير لتأمين قداس إخوانهم المسيحيين، وحين شعر أبناء مصر بعدم تحقيق أهداف ثورة ٢٥ يناير وجنوحها عن المبادئ التى انطلقت من أجلها، خرج المسلمون والمسيحيون مرة أخرى إلى كافة ميادين مصر ليعيدوا المسار الصحيح لتحقيق أهداف الثورة، فأزاحوا حكم الرئيس الإخوانى وحاشيته وجعلوا كلمة المصريين هى العليا،
وعلى مدار التاريخ تصدى مسيحيو مصر لجميع مؤامرات أقباط المهجر الذين حاولوا تصدير صورة مغلوطة عن معاملة المسيحيين فى بلدهم مصر كأقلية، وأعلنوا موقفهم واضحًا صريحًا أن مصر وطن لجميع أبنائه وأنهم جزء لا يتجزأ من مكونات هذه الحضارة على مر العصور، وأن جميع مخططات عملاء الأجندات الخارجية المشبوهة مرفوضة شكلًا وموضوعًا، فتراب هذا الوطن لا يحميه إلا أهله الصامدون الصابرون.
وبعيدًا عن الأحاديث المنمقة والعبارات الرشيقة يدرك كل من تجول فى شوارع مصر، عمق الروابط المتينة بين المسلمين والمسيحيين فى كل مناسبة، ففى شهر رمضان المعظم تلاحظ الفرحة فى عيون الجميع بعيدًا عن أى تفرقة، ويتبادل المسلمون والأقباط العزائم، ويجتمعون على مائدة واحدة، بل إنك تصادف مسيحيين يصومون كما يصوم المسلمون، فيما يقيم مسيحيون موائد الرحمن التى تتحول إلى موائد الوحدة الوطنية.
وفى شم النسيم يخرج جميع المصريين مسلمين ومسيحيين للاحتفال بأقدم عيد مصرى منذ عهد الفراعنة، لتكشف زيف أية مزاعم أو شائعات أو أكاذيب عن أى تمييز دينى أو حواجز اجتماعية أو نفسية، بل إنه ليس بغريب أن يقوم المسيحيون بتشغيل آيات من القرآن الكريم وخصوصًا سورة «مريم» الملقبة بعروس القرآن، اعتزازًا بتكريم الإسلام لأم عيسى العذراء، وهذه هى مصر وبإذن الله ستظل هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكل عام ومصر وشعبها بخير.