يعد الروائى والمحارب المصرى محمود عرفات نموذجًا للمثقف العضوى الذى أشار إليه الفيلسوف وعالم الاجتماع الإيطالى أنطونيو جرامشى، والأديب محمود عرفات من مواليد ٢٠ نوفمــبر ١٩٤٧ بمدينة بيــلا، محافظة كفر الشيخ، شارك فى حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ كضابط احتياط بإحد التشكيلات القتالية المدرعة بالجيش الثانى الميدانى.
الروائى والقاص محمود عرفات الحائز على جائزة الدولة التشجيعية عام ٢٠٠٥، عن مجموعته القصصية «على شاطئ الجبل»، من أهم أعماله الروائية «مقام الصبا، والخسوف» وروايته المتألقة «سرابيوم» الصادرة عن سلسلة روايات دار الهلال فى أكتوبر ٢٠١٥، وهى انعكاس صادق لرواية الحرب وأدب المقاومة، شكل من خلالها صورة أدبية رائعة تجسد الحياة اليومية للعسكرية المصرية فى تلك الفترة العصيبة من حياة الشعب المصرى على كافة المستويات السياسية والحربية والاجتماعية.
يعكس الإطار العام لرواية «سرابيوم» حياة البطل «دسوقى»، وهو فتى ريفى نشأ فى إحدى قرى مدينة دسوق، وكان لطبيعة التنشئة الاجتماعية الريفية لدسوقى أثرها عليه، حيث أطلق والده اسم «دسوقى» عليه، نظرا لتعلقه وحبه الشديد بالعارف بالله سيدى إبراهيم الدسوقى، كما أثرت فيه وفاة أبيه المبكرة على الملامح العامة لبنيته الشخصية، فقرر فى سن مبكرة الالتحاق متطوعا بالجيش هربًا من المعاملة القاسية لزوج أمه.
تعكس تلك الوقائع الإطار الزمنى للرواية الذى بدأ قبل حرب يونيو ١٩٦٧، فتعلم دسوقى فى الجيش معنى الحفاظ على الأرض والدفاع عنها، فهى العرض والشرف، غير أن النتائج الكارثية لحرب يونيو ١٩٦٧ نزلت عليه كالصاعقة، وكان لتلك الحرب آثارها النفسية والسياسية والعسكرية على بنية المجتمع المصرى وأنساقه الاجتماعية الفرعية المتباينة، بل على الفاعلين الاجتماعيين فى الريف والمدينة، فيقول دسوقى: «بعد أسابيع قامت ٦٧، سحابة الهزيمة السوداء غطت سماء الوطن، وبدأ كل شىء على وشك السقوط، لا أنسى وجه جمال عبد الناصر وهو يلقى خطاب التنحى.. مهزومًا بائسًا حزينًا..».
ويخاطب دسوقى أمه قائلا: «بعد الحرب وجدنا أنفسنا فى الأرض.. أجنحتنا مكسورة، والدماء تغطى الرمل والأرض والزرع، الخونة ضحكوا علينا.. والصهاينة أذلونا وأخرجوا لنا ألسنتهم.. الهزيمة مرة يا أمى». وزاد من حزن دسوقى على حال الوطن، استشهاد القائد عبد المنعم رياض، الذى أشرف على الخطة المصرية لتدمير خط بارليف، خلال حرب الاستنزاف.
تصور رواية «سرابيوم» تأثير حرب يونيو ١٩٦٧، وحرب الاستنزاف على الأسرة المصرية وعلى حركة إيقاع الزواج فى الريف المصرى ومصر عمومًا، ورؤية المصريين لمستقبلهم المشوش والضبابى، وكيف تشكلت تلك الرؤية التراجيدية للمصريين بفعل الحرب نحو مستقبلهم، فقد أحجمت الأسر عن تزويج بناتهم فى سن الزواج للمجندين فى الجيش، خوفا على استقرارهن الأسرى، ونتيجة لاحتمالات تعرض الشباب للإصابة أو الاستشهاد على جبهة القتال. وترد أم دسوقى عليه قائلة: «الشاب لا يستطيع الزواج إذا كان مجندًا، أصبح التجنيد سببًا لرفض العريس.. حجة أهل العروس معقولة.. فالحرب آتية ولا أحد يعرف كيف تنتهى ومن سيبقى ومن سيذهب؟».
شارك دسوقى فى حرب الاستنزاف والتحق باللواء ١١٧ بقرية «سرابيوم» التى تبعد عن مدينة الإسماعيلية بنحو أحد عشر كيلو مترًا. فى «سرابيوم» تعرف على حبيبته «رئيفة» تلك الفتاة الريفية ذات الوجه الجميل. ويقدم لنا الروائى محمود عرفات شخصية «متولى» شقيق «رئيفة»، أحب دسوقى «رئيفة»، وتعلق قلبه من أول مرة تعرف فيها عليها، للدرجة التى انهال فيها على زميله المجند بالجيش، الذى حاول ذات مرة أن يعاكس فيها «رئيفة»، وكاد أن يودى بحياته، لولا تدخل أبو رئيفة لدى قائده فى الجيش وطلب العفو عن «دسوقى». يعكس محمود عرفات عمق العلاقة التى تربط الشعب بجيشه، على لسان «متولى» شقيق «رئيفة»: «بعد الصلاة أمر والدى بالعجين، تعجبت أمى لأن صندوق العيش ممتلئ، قال لها وهو يهتز فرحًا: العجين للعساكر يا أم رئيفة، قامت أمى لتعجن وهى تهز رأسها كأنها تقول لنفسها: كيف نكفى هذه الأفواج المتدفقة من الجنود؟ قرأ أبى أفكارها فقال فى يقين يا أم رئيفة: الجهاد بما نملك. فى الصباح يحمل كل منا مشنته مليئة بالخبز، ونقف على الطريق نوزعه على الجنود. أهتف بالجنود: شدوا حيلكم يا أبطال، وكان الرد يسبق الكلام ويتبعه.. الله أكبر».