السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

لماذا لا يموت جمال عبدالناصر؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان موسم جنى القطن، الناس فى قريتى يستعدون بزهو لبيع المحصول، وتسليمه للشونة، إيذانا ببدء الأفراح والليالى الملاح كعادة أهل الريف، فجأة قالوا مات، فامتلأت البيوت بالكآبة!
صغيرا كنت وقتها، لا أحفظ التواريخ، بالكاد كنت أعرف أسماء الأيام، وذات ليلة من ليالى خريف ١٩٧٠، ذهبت مع أقرانى للفرجة على حلقة ذكر «حضرة» فى «الـوسعاية»، أمام بيت محمد مكى، أو محمد النجار، كما يطلقون عليه فى بلدتى «الوقف» بمحافظة قنا، أقامها الرجل بمناسبة طهور ابنه «جمال»، قبل أيام من بدء الدراسة.
رغم مرور عشرات السنين، ما زلت أتذكر، الشيخ «ويفى»، منشد الحضرة، وما زال عالقا بذاكرتى مشهد صراخه وسط الحاضرين، يدب رجليه على الأرض فى نوبة بكاء بحرقة، معلنا عن وفاة جمال عبدالناصر، فجأة خيم الحزن على المكان كله، تحولت الوليمة المعدة للدراويش فى ليلة الفرح إلى مأتم، نكس الحاضرون وجوههم المبللة بالدموع، فتبدل الإنشاد بالنحيب.
كنت وأقرانى لا نعرف شيئا عن جمال عبدالناصر الذى رحل ليلة ٢٨ سبتمبر، من هو؟.. ماذا يعمل؟.. كما أننا لا نعرف سببا للحزن الشديد، هل هو قريب لأحد فى بلدتنا؟ أم أنه شيخ صوفى، ينعاه مرتادو حلقات الذكر، فالعالم بالنسبة لنا، وقتها، يبدأ من الدروب الضيقة، الفقيرة، وينتهى عندها فقط، كنا نسمع اسمه يتردد بين الصبية والشباب الأكبر منا سنا، أثناء التبارى بينهم، سواء فى رفع حجر كبير، أو عبور الترعة تحت سطح الماء، أو قطع مسافة جريا فى سباق مبهر، أو أن أحدهم يتحدى الآخر للمبارزة فى ألعاب تشبه المصارعة، غالبا ما كانت تنتهى بالمشاجرات بينهما، كانوا يقولون لبعضهم البعض: «اللى أبوه جمال عبدالناصر يرفع الحجر مرة واحدة من على الأرض»، أو «اللى أبوه جمال عبدالناصر يسبق الآخر فى الجرى». 
كنت فى تلك السنوات البعيدة لا أدرك دلالات «حشر» اسمه فى منافسات الصبية والشباب، بطريقة توحى بالبطولة والقوة، فقط كل ما أعرفه أن الحزن خيم على وجوه الناس فى بلدتى، بكاه الرجال بالدموع كالأطفال، أما النساء فلطمن الخدود، اتشحن بالسواد، كأن من مات هو الأب أو الأخ أو الزوج أو الابن، أو قريب له مكانة لدى ذويه، ولمَ لا، فهو بالنسبة للبسطاء حصن الأمان فى العيش الكريم وتعليم أبناء الفقراء ممن كانوا أجراء، عرفوا العلاج المجانى والتوظيف فى الميرى.
يوم تشييع الجنازة خرجنا للفرجة على النعوش الرمزية التى يحملها الشباب فوق أكتافهم، يطوفون بها شوارع القرية، وكنا نتأمل مشاهد تعليق اللافتات السوداء التى انتشرت فى شوارع بلدتنا، تعبيرا عن الحزن الذى عم البيوت، ورحنا نهتف وراء شباب ورجال قريتنا بكلمات لا نعرف معانيها، فقط كنا نرددها: «الوداع يا جمال.. يا حبيب الملايين».
عندما كبرنا وزحفت بنا سنوات العمر نحو الشباب، عرفت، لماذا سكن القلوب، وأدركت أن جنازاته الرمزية فى أرجاء البلاد من الصعيد إلى الدلتا لم تكن لتشييع ميت إلى قبره، بل كان السائرون خلف النعوش يزفون زعيما إلى عرشه فى نفوس المخلصين من أبناء هذا الشعب، فى مشهد لم يعرفه العالم من قبله، وربما لن يعرفه من بعده، فبعيدا عن المسيرات فى القرى والمدن، كان المشهد فى القاهرة مثيرا لدهشة العالم، تحولت شوارعها أنهارا تموج بالبشر، خرجوا كالطوفان يتمسكون ببقائه قائدا لهم وملهما لطموحاتهم، هؤلاء جميعا لم تحركهم عاطفة الحزن على الرحيل وحدها، إنما الإصرار على تجاوز الهزيمة، وتأكيد أنه لم يمت وأحلامهم التى هى أحلامه لن ترحل معه، هذه الحالة الاستثنائية التى لم تعرفها شعوب العالم على اتساع الكرة الأرضية، وصفت ببراعة فى قصيدة تعبر عن صدق المشاعر تحمل عنوان «من لحظة الحزن العظيم» كتبها الشاعر محمود حسن إسماعيل، يقول فيها «إن المسجى على راحة الخلد حى وثائر.. ما زال حيا لم يمت ناصر.. ما دام فى الأرض حر وثائر».
إذن ناصر لم يمت باعتباره ملهما لحركات التحرر فى بلدان العالم الثالث والقارة الإفريقية، لا يزال حيا فى الذاكرة القومية، وفى واقعنا المشحون بالصراعات حيا، عندما نردد بعض المصطلحات مثل العدالة الاجتماعية، استقلال الإرادة الوطنية، نذكره عندما نتحدث عن «القدس»، وجعه المزمن وعار العرب الأزلى، ما زال ناصر حيا فى الضمير الوطنى، لبراعته فى كشف زيف الفاشية الدينية، التى أرادت اغتياله جسديا وحاولت ضرب مشروعه الوطنى والقومى، وما زالت تحاول اغتياله معنويا، باعتباره عدوها الأول والتاريخى، ما زال جمال عبدالناصر حيا فى وجدان الأحرار، لما يمتلكه من سلطة عاطفية لديهم، كل هذا تفسير واقعى للحزن على رحيله، رغم أنه ترك «سيناء»، وهى جزء غاليا من الأرض المصرية، محتلة.
هذه المتناقضات حيرت زعماء العالم الذين حضروا من كل القارات للمشاركة فى تشييع جثمانه إلى مثواه، ألم يكن هذا كافيا للقول بأن مثله لا يموت، فنحن نراه فى كل حدث، نرفع صورته فى كل مناسبة وطنية، كما أننا دائما نستدعى أحلاما دافع عنها، قضايا قومية، وقف إلى جانبها، أبعادا اجتماعية انحاز لها. 
سيظل جمال عبدالناصر حلما أسطوريا فى مخيلة الشعب الذى أخلص له، رغم كل محاولات تشويهه من قبل الإخوان، إلا أن تلك المحاولات لم تقلل من قيمته ومكانته لدى المؤمنين بقضية الوطن والمدافعين عنه، بل جعلته بطلا تراجيديا، فالرحيل جاء على خلفية قيامه بوقف نزيف الدم العربى فيما عرف بمذبحة «أيلول الأسود»، حاول إيقاظ العرب من غفوتهم، لكنهم تركوه، وحده يتألم، راحوا يشربون نخب فضائحهم فى حانات أعدائه، فتراكمت عليه الأحزان، وتسلل المرض إلى جسده جراء وجعه، وفى ذكرى رحيل جسده تقفز لذاكرتى أبيات من قصيدة الشاعر العربى نزار قبانى تترجم عار التخلى عنه.
قتلناك..
ليس جديدًا علينا، اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا
وكم من إمام ذبحناه، وهو يصلى صلاة العشاء
فتاريخنا كله محنة، وأيامنا كلها كربلاء
نزلت علينا كتابا جميلًا، ولكننا لا نجيد القراءة
وسافرت فينا لأرض البراءة، ولكننا ما قبلنا الرحيلا
تركناك فى شمس سيناء وحدك، تكلم ربك فى الطور وحدك
وتعرى.. وتشقى.. وتعطش وحدك
ونحن هنا نجلس القرفصاء
نبيع الشعارات للأغبياء