فى الثلث الأخير من هذا الشهر، سوف تعقد مجموعة من الناشطين مؤتمرًا دوليًا مستقلًا فى نيويورك، تزامًنا مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، الهدف هو دراسة وتمحيص الاتفاق الإيرانى الدولى الذى عقد فى ١٤ يوليو ٢٠١٥ والذى نتج عن مباحثات طويلة بين ما عرف بدول ٥ +١. المجموعة الداعية لديها شكوك عميقة فى أن ذلك الاتفاق لا يمنع إيران من حيازة ما يعرف بسلاح التدمير الشامل، وترغب فى عقد هذا المنتدى من أجل إثارة الموضوع على المستوى العالمي، وأيضًا رسالة إلى المتسابقين إلى البيت الأبيض بأهمية الموضوع. فتح الملف يشير إلى قلق بين بعض النخب الأمريكية جراء الاحتمالات المقبلة، وهى نخب خارج الاستقطاب الحزبى الظاهر اليوم فى الولايات المتحدة، وأيضًا للإشارة إلى المكان الأخطر الذى يمكن أن تذهب إليه إيران، أخذًا بمجمل سياساتها المتبعة.
الحقيقة التى أصبحت معروفة أن جزءًا من متخذى القرار فى إيران راهن على نيات الرئيس باراك أوباما التى فى مجملها البعد عن المواجهة، والبحث عن هوامش مشتركة لحل النزاعات فى الملفات الدولية الساخنة، ومنها الملف الإيرانى فيما سمى بعقيدة أوباما، هذا الرهان هو الذى جعل الإدارة الإيرانية تسعى للوصول إلى اتفاق ما أثناء فترة إدارة السيد أوباما، ولم يكن ذلك سًرا، فقد قيل علنًا فى طهران إن لم نحصل على اتفاق الآن فلن نحصل عليه. جزء غير يسير من إدارة أوباما راهن أيضًا على ذلك الاتفاق، الذي يرضى «الغرور الوطنى الإيرانى»، وتذهب المراهنة إلى تصور أنه سوف يقلل من «شطط» السياسة الإيرانية، وقد يشجع استقرار الطبقة الوسطى الإيرانية، على أمل أن تقوم بالعمل على تغيير مسارات التشدد، كانت هناك مراهنات من الطرفين.
بعد أكثر من عام على الاتفاق تبين أن تلك المراهنات لم تكن دقيقة. فلا المال الذى وصل إلى الخزانة الإيرانية بعد الاتفاق صُرف بشكل كبير على التنمية، ولا قلل من «شطط الإدارة الإيرانية» فى الجوار وفى العالم، وأوصلها إلى منطقة الانسجام مع النظام العالمي، ومن جهة أخرى لم تأخذ الولايات المتحدة من الاتفاق كل ما أرادت، وهناك جسم من التفكير الأمريكى يقول إن جُلّ ما فعلته الإدارة الأمريكية الحالية، باختيار سياسة «الوداعة» هو تأجيل الملف بدلًا من حله! من هنا نما لدى كثيرين مخاوف حقيقية بإمكانية الوصول الآجل لصنع القنبلة النووية الإيرانية، الاتفاق أخرها زمنًا، ولم يلق احتمال الحصول عليها. أيًا كان سيد البيت الأبيض أو سيدته بعد الانتخابات فى نوفمبر المقبل، فإن العلاقات «الأمريكية الإيرانية» لن تكون «العمل كالمعتاد».. الأقرب إلى الاحتمال بأن الإدارة الجديدة، أيًا كانت، سوف تنبذ سياسة الوداعة والقيادة من الكرسى الخلفى فى الكثير من الملفات، على رأسها الملف الإيرانى و«الشرق أوسطى»، هناك تغير ما سوف يحدث، إشارات التغير بدأت تظهر فى عدد من المواقف، أحدها الندوة الدولية التى أشير إليها سابقًا ولكن ليس فقط.
سيد البيت الأبيض المقبل، سواء دونالد ترامب «وهذا احتمال ضئيل ولكنه ممكن» أو السيدة هيلارى كلينتون «وهذا احتمال مرجح»، سيكون هناك تفكير مختلف، أخذًا بالمتغيرات الضخمة الحاصلة والمزاج المتذبذب، على رأسها تلك الضغوط الاقتصادية الداخلية والآثار الكارثية على المستوى الدولي، وفشل سياسة إدارة أوباما الثنائية فى ترويض الأعداء أو كسب ثقة الأصدقاء. فى الحالة الأولى «الاحتمال الضئيل، أى وصول السيد ترامب». فالقراءة هنا عسرة إلى حد كبير، كون الرجل وطاقمه الأقرب ليست لديهم سيرة سياسية أو آراء سابقة واضحة فى الكثير من الملفات يمكن الرجوع إليها، إلا أنه مما رشح حتى الآن فى هذا الصدد، أن ترامب فى أكثر من تصريح عاب على الإدارة الحالية احتمال تسليم النظام الإيرانى «بلايين الدولارات» التى سوف تستخدم فى دعم «الإرهاب»، كما رشح أنه لا يمانع وضع «رجال على الأرض» من أجل الدفاع عن مصالح أمريكا.
قراءة موقف الطرف الآخر، هيلارى كلينتون أكثر سهولة فى هذا الملف، فهى الأكثر معرفة بالشرق الأوسط أكثر من أى رئيس سابق، ولديها الكثير من الكتابات والتصريحات فى الكثير من الملفات. قبل توقيع الاتفاق بأسبوع «قبل ١٤ يوليو ٢٠١٥» قالت مخاطبة مجموعة صغيرة فى كلية دارموث: «أرجو أن نحصل على اتفاق مع إيران فى الأسبوع المقبل، حتى لو حصلنا على ذلك الاتفاق، سوف نواجه مشكلات رئيسية، فإيران هى الدولة الرئيسية فى العالم التى تناصر الإرهاب». كما قالت فى مكان آخر: «من الواجب أن نكون متشددين وأذكياء فى التفاوض مع إيران قبل أن يفوت الوقت». وفى عام ٢٠١٤ فى مقابلة لها مع مجلة «أتلانتك» قالت: «كنت دائمًا مع الموقف الذى يقول إن إيران ليس لها الحق فى تخصيب اليورانيوم، ليس هناك شيء اسمه الحق فى التخصيب». أما أقوى تصريحاتها فقد قالت: «لو كنت رئيسًا للولايات المتحدة، فسوف نهاجم إيران ونحن قادرون على إزالتها». وفى تصريح آخر، قالت: «أنا أؤيد تسمية الحرس الثورى الإيرانى كما هو (منظمة إرهابية)».
زبدة الموضوع أن الأمور لن تكون كما كانت فى الإدارة المقبلة، أى ممارسة النفور من المخاطر كما سار عليها أوباما، هذا التصور لا يخفى على الإدارة الإيرانية، بل إن خطواتها التحوطية، تنم عن ذلك الفهم، فقد قامت أخيرًا بالتحرش بالقوات الأمريكية فى الخليج مرتين، وإعلان صريح بتحصين المواقع النووية فى إيران بمنظومة صواريخ روسية، والدفع بقوة فى ملفات العراق وسوريا واليمن وغيرها لإظهار الشوكة الإيرانية وتحقيق انتصارات. ومن جانب آخر بناء تحالفات مع الاتحاد الروسي، والسماح له باستخدام القواعد العسكرية الإيرانية، على عكس عقيدة أوباما، فإن الضغط المتوقع على إيران سوف يشعل الشقاق بين المتشددين، من الحرس الثورى وحلفائه، وبين المعتدلين الذين سوف يشاع عنهم أنهم خسروا الرهان، وما أخبار التوقيفات والاتهامات التى تطال بعض رجال «الاعتدال» مؤخرًا إلا مقدمة لذلك الصراع المحتمل. يزيد من تفاقم الصراع أربعة مدخلات مهمة؛ الأول هو تراجع أسعار النفط، والثانى هو تأثير ثورة الرقمنة فى المجتمع الإيراني، والثالث أن «فاكهة الاتفاق الموعودة» لم يذق منها الشعب الإيراني شيئًا يذكر، أما الرابع فهو اختلاط الفساد بعدم تحقيق أى انتصارات فى الجوار، ذلك سوف يزيد من التوتر فى الداخل الإيراني، بل سوف يفاقم الصراع.
نقلاً عن العربية