فى قريتى الصغيرة.. على أطراف الجبل.. ضريح صغير لولى مجهول.. كان مدرسونا فى المؤسسة الابتدائية يقومون بتدبير الرحلات الشهرية إليه.. لم تكن الرحلة بالأساس موجهة لزيارة الضريح.. كانت هناك ترعة تمر تحت الجبل -قيل لنا ونحن صغار إن محمد على باشا هو من أمر بحفرها- ولم نكن نفهم لماذا تمر هذه الترعة الصغيرة تحت الجبل العالى ولا زرع يستفيد منها.. والنيل على بعد خطوات.
بعد سنوات عرفنا أن مهندسة مصرية شابة هى من أشرفت على شق هذه الترعة.. وأن المصريين الغلابة ممن كانوا لا يملكون لا بطاقة هوية ولا أوراقا تثبت ميلادهم فى هذه المنطقة المنسية هم من شقوا الجبل تنفيذا لأوامرها.. وهم نفسهم من كانوا يقيمون الحضرات فى جوار مقام ذلك الرجل الغريب الذى نشاهد ضريحه حتى الآن.
تلك المساحة المنزوعة من الكهرباء.. والمستشفيات والمدارس.. هى نتاج «طرح النهر».. كان النيل المعاند قبل وجود السد العالى يمارس عنفوانه على أرض الفلاحين.. ينحر فى الصخر كيفما شاء.. وصدر فى وقت ما قانون طرح النهر ليعوض من أكل النهر فى عملية روقان باله ودروشته بعض أراضيهم بأراض بديلة على الشط المقابل.
لا أعرف لماذا أتذكر تلك المنطقة وذلك القانون كلما قرأت ما كتبه فؤاد حداد عن بلد حبيبته:
بلد حبيبى بجنينة
بيجرى فيها النيل
بين ضفة مايلة
وضفة عايزة تميل.
تلك الضفة التى مالت فى زمن بعيد.. خلقت مساحة محصورة بين الجبل والنيل.. عاش عليها بعض السكان الذين لم تعترف البلديات بوجودهم.. لاختلاف الأحياء الإدارية فيما بينها على وجود هذه المساحة فى أوراقها.. فالأصل لم يكن موجودا قبل طرح النهر لها.
المهم.. أننى منذ تلك السنوات.. أتوه بين إيقاعات الحضرة.. التى حاوطت أيام صبانا فى معظم قرى الريف.. وصار للحضرات نجومها الشيخ أحمد التونى.. وعبدالنبى الرنان.. والعجوز وياسين التهامى وغيرهم.. وتجاوز حضور الحضرات لرحلات المدرسة الابتدائية إلى الأفراح.. وحفلات الطهور.. وأحيانا بدون أى مناسبة.. يكفى أن يقرر أحدهم أنه عامل ليلة.
ومن حين لآخر.. أتذكر تلك المهندسة التى شقت ترعة فى بطن الجبل منذ ما يزيد على مائتى عام فى عز صهد حر الصعيد.. بالعلم وحده شقت الجبل الذى انصاع لها ولعلمها، فبكى طربا على إيقاع حضرتها.
لا يذكر المدرس الذى كان يصحبنا فى رحلتنا اسم المهندسة.. ولم يذكر صديقى عبدالرحيم كمال الذى تقع الترعة على رأس قريته التى صور فيها نور الشريف مسلسله «الرحايا» أى شىء عن صاحبتها، لكنه ودون أن يدرى أوصانا بمحبة «خضر العمايم».. اللى ندهونى.. وندهوه.
ذلك العالم الصوفى الذى تسلل إلى حنايا صدورنا.. دون ضغوط من أى أحد سوى محبة الرسول «صلى الله عليه وسلم» وآل البيت.. وإيقاعات الحضرة الموروثة فى صدورنا.. يبدو أننا نعيش هذه الأيام.. هربا من حكومة لم يعد يصلح معها أى نداء عاقل.. حكومة لا تؤمن بحكمة المهندسة المصرية التى شقت الجبل منذ مائتى عام، لكنها تغرق فى بركات وزير التموين وتسبح بحمده ليل نهار.. وها هو وزير الصحة يمضى على خطاه ومن بعده وزير الزراعة.. فإذا كان وزير التموين الذى تحاصره الاتهامات من كل ناحية يجد من يشكره.. فلماذا لا يقلده وزير الزراعة ويعلن ونحن على أعتاب العيد أن وزارته ستطرح «كيلو اللحمة بـ٢٥ جنيها».. وأن آلافا من رؤوس الحيوانات متوفرة بهذا السعر.. فى الوقت الذى يغنى فيه المصريون أغنية صفاء أبوالسعود بعد تحويرها وإضافة لمسة عصرية لتصبح «العيد فرخة».
هذه الدروشة التى نمضى إليها حتما لا علاقة لها بخضر العمايم اللى ندهونى.. هى دروشة مقصودة فى مواجهة عبث حكومى لا مثيل له.. فالسيد وزير التعليم قرر إلغاء امتحان الميدتيرم فى ليلة.. وألغاه فى الليلة التالية.. عادى مافيش مشاكل.. والمحافظون يقررون تشميع السناتر فى محافظات.. فيما تستمر فى محافظات أخرى.. المحلات التجارية تبيع السجائر والسكر والزيت بمزاجها وبالسعر اللى يعجبها.. زيها زى «بتوع الدولار».. وفى مواجهة ذلك لا أحد سوى نائب عجيب من عجينة ليس لها مثيل، يزعم أن نص المصريين عندهم عجز جنسى، ولذلك فهو يدعم ختان الإناث.. حتى يكنّ «ستر وغطا».. حبوب الهلوسة التى زاد مفعول استعمالها هذه الأيام حتما ستدفعنا إلى «أكبر حضرة فى التاريخ».. أما تلك المهندسة التى شقت الجبل فى قريتى.. فمصيرها فى قاع النيل.