هل تبدأ الحرب النووية المحتملة من الشرق الأوسط؟ هذا ليس ضربًا فى الغيب، بل محاولة لقراءة ما يحيط بنا اليوم من تعقيدات دولية غير مسبوقة، وتطور احتمالاتها، فالعالم يسير نائمًا نحو صراعه الأخير، وساحة المعركة قد هُيئ لها منذ فترة، أنها فقط بانتظار الصاعق، وقد يكون فى منطقتنا! ساحة المعركة بدأ التحضير لها فى الفترة الأخيرة بتسارع، وبقرار من الإدارة الأمريكية الحالية بالتخلى عن مسئولياتها الدولية، كدولة عظمى تتشارك مع الدول، على الأقل الأربع الأخرى نظريًا، مسئولية الحفاظ على الأمن الدولى. هذا التراجع عن الاشتباك الإيجابى الذى يُبرر بعدد من المبررات، أدى إلى ظهور الفراغ فى بعض المناطق، من بينها الشرق الأوسط وشرق أوروبا، الأمر الذى أغرى الاتحاد الروسى، لأسباب كثيرة أخرى من جانبه، بأن يتقدم لملء ذلك الفراغ، خصوصًا أن الإدارة الروسية قرأت التخلى الأمريكى على أنه ضعف وتوخٍ للحذر من نتائج الاشتباك الإيجابى، خصوصًا بعد تطورات سلبية فى ساحات أفغانستان والعراق. على الجانب الآخر، فإن التراجع الأمريكى أضعف قدرة حلفاء الولايات المتحدة على المواجهة فى أكثر من مكان، من جورجيا إلى أوكرانيا إلى الشرق الأوسط إلى بحر الصين.
أقصى ما فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد الهجمة الروسية هو مزيد من العقوبات، ويعرف المسئول الأمريكى أيًا كان مستواه، كما يعرف غيره، أن حزمة العقوبات يكفى أن تخترقها دولة واحدة لتشكل «ثقبًا أسود يتسرب منه كل ما أريد له أن يمنع»!
أيقظ هذا التقدم الروسى كثيرًا من القلق فى الداخل الأمريكى، وما صعود دونالد ترامب غير المنطقى لكثيرين إلى سدة السباق فى إطار الجمهوريين باتجاه البيت الأبيض، سوى مؤشر لذلك الشعور الغامض لدى الجمهور الأمريكى بأن التراجع يعنى الهزيمة. المعادلة تتمثل فى فهم السيد بوتين «للعقلانية الأوبامية»، التى ترى تارة «توريط روسيا فى صراعات محلية»، وتارة ترى ضرورة التخلى عن الخسائر المحتملة بالعزوف عن الدخول فى أى صراع نشط، والتوجه إلى الأدوات الناعمة، مثل المقاطعة أو قرارات مجلس الأمن. ومعادلة «تعقل» أوباما هذه تقف فى مواجهة «فتوة» الكرملين، وهى فتوة تحمل القليل من الاحترام للمبادئ الديمقراطية أو حقوق الإنسان. والأمر كذلك، بدأ كثيرون فى الغرب يحذرون من طموحات بوتين غير المنضبطة، ويذكرون المعادلة على أنها تكرار لموقف رئيس وزراء بريطانيا، نيفل شامبرلين، أمام أدولف هتلر، عندما قدم الأول كل التنازلات على أمل تعقيل هتلر! إلا أن ذلك التعقل كان يأخذ العالم، وهو نائم، إلى حرب ضروس كان ضحيتها فى العالم بين خمسين إلى خمسة وثمانين مليون إنسان! الإدارة الأمريكية المقبلة أمامها طريقان لا غير فى مواجهة التمدد الروسى، إما السير فى سياسة «العقلنة»، والمخاطرة بخسارة مصالح أكثر وأكبر، تقوض فى النهاية نفوذها فى العالم، وإما مواجهة هذا التمدد بكل الطرق المتاحة، ومنها احتمال أخذ العالم إلى صراع نووى، والمواجهة - أيًا كان الرئيس القادم - هى الأكثر احتمالًا.
يبدو أن الأمر للبعض مبالغ فيه، لكن دعونا نقرأ بتأنٍ كتاب السيد وليام بيرى، الذى صدر الشهر الماضى بعنوان «رحلة على الحافة النووية»، والرجل هو الأكثر معرفة بالأمور الخلفية للصراع النووى واحتمالاته فى العالم، فقد كان وزيرًا للدفاع فى إدارة بيل كلينتون، ونائبًا لوزير الدفاع فى إدارة جيمى كارتر قبل ذلك، إلا أن أهمية الرجل كونه «من رجال الحجرة الخلفية» فى العمل السرى القديم والطويل للتحضير ومتابعة السباق النووى، وقد قضى هناك جل عمره العملى، فهو الأكثر معرفة بالملف. يقول فى الكتاب: «اليوم، فرص حدوث شكل من أشكال الكوارث النووية أعظم وأقرب مما كان حتى أيام الحرب الباردة»! هذا الكتاب المثير والمليء بالحقائق حتى قراءته تثير المخاوف، فقد ذكر بالتفصيل أحداث ما عرف تاريخيًا «بأزمة صواريخ كوبا - أكتوبر ١٩٦٢»، وكيف وصل العالم إلى حافة الصراع النووى، وأنقذ بالصدفة البحتة، وتنازل الطرفان بعد ذلك بسحب متبادل للصواريخ من كوبا (السوفيتية)، ومن تركيا (الأمريكية)، لقد كان فى كلا المعسكرين (الأمريكى والروسى وقتها) رجال شغوفون بالحرب، كما يرى وليام بيرى. اليوم، ليس أكثر من السيد بوتين وجماعته شغوفين بالحرب، إلى درجة إبادة شعب شبه أعزل! التحذير الصارم الذى أوضحه وليام بيرى فى كتابه يجب ألا يتجاهل، فهو يرى أن كارثة نووية يمكن أن تحدث من خلال إطالة الصراع المناطقى وتفاقمه، كما يحدث فى سوريا اليوم. وبالتالى، فالاحتمالات متعددة، منها حصول مجموعة متشددة على نوع من أنواع القنبلة القذرة التى يمكن أن تقتل ملايين، أو وقوع صراع بين دولتين فى العالم الثالث لكل منهما قدرة نووية، أو - وهو الأهم - أن ترى مجموعة من السياسيين فى معسكر ما أن الضغط على مصالح دولته لم يعد يطاق!
لا يجب أيضًا تجاهل التفكير باحتمال الصدفة فى وقوع صدام غير مبرمج على ساحة قتال بين قوتين عُظميين (كما فى الساحة السورية اليوم) كى تنطلق الشرارة. المهم فى ذلك الكتاب أنه ينتهى بالإشارة إلى السباق الجديد فى الحقل النووى بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسى غير المسبوق، فالعالم ليس أكثر أمنًا، ولن يكون، مع احتدام الصراعات، وتراجع القيادات التاريخية، وشهوة الغلبة، وقد تكون الأسباب التى تشعل العالم بكارثة نووية شرارة عنوانها التعنت القومى، والفخر الشخصى، أو التقييم الخطأ لموقف الآخر.. وبؤرة الصراع اليوم هى الشرق الأوسط!
نقلًا عن «الشرق الأوسط»`