فى الأجواء المحيطة بالعرب اليوم والمحبطة من وضع اقتصادى وحروب أهلية وبطالة واسعة وغضب الشباب أو إرهاب متفٍش، هل الحديث عن الثقافة ترف؟ أم أن الأصل كما يذهب كثيرون، فى ظهور مشكلاتنا المستعصية فى الأصل، هى الثقافة؟ أميل إلى ترجيح الرأى الأخير، خصوصًا إن نظرنا إلى الثقافة بمعناها الكلي، أى تلك الأفكار والقناعات التى تجعل منا نفعل هذا ولا نفعل ذاك من الأعمال، أو نفسر الأحداث بهذه الطريقة لا بتلك. وحتى لا يظل القارئ الكريم فى العموميات، أقدم له مثالاً صادفني، وربما صادف غيرى من الناس من المتابعين لوسائل الاتصال الاجتماعى الحديثة: تقول الرسالة بالحرف الواحد: «... التين والزيتون: عليك أن تأكل تينة واحدة كل يوم وسبع زيتونات.. تفعل لصحتك كذا وكذا من الفوائد العشر المذكورة فى الرسالة».. ولاختصار وقت القارئ الكريم أذكر منها البعض، وهى «خفض الكوليسترول، وتزايد الإخصاب عند النساء، وإزالة عوارض الشيخوخة ومعالجة الضعف الجنسي، وتقوية القلب، بل وحتى تكتمل (العشرة) ضبط النفس!.. لأن التين والزيتون مذكوران فى القرآن الكريم...»، ولأن مثل هذه الرسالة ليست مضرة ضررًا كبيرًا للمجتمع، فإنه تجدر الإشارة إلى عاملين مهمين، الأول سطحية تفسير البعض لآيات فى القرآن، ونسبة كثير من المعلومات الخاطئة وإشاعتها بين العامة، والثانى الاعتقاد بما يكتبه البعض على أنه صحيح، فيقوم بالعمل به أو توزيعه بحسن نية.
وعند العودة إلى تفاسير الثقاة حول ذلك النص/ القسم «والتين والزيتون وطور سنين، وهذا البلد الأمين... » إلى آخر السورة الكريمة، نجد الأقوال فى تفسير ذلك متعددة، بل ومتناقضة، منها ما ذهب إلى القول إنها الفاكهة التى تؤكل والزيتون الذي يعصر، ولكنها تذهب أيضًا، وكما قال القرطبى إن المقصود بالتين «هو مسجد أصحاب الكهف»، فالمقصود ليس الاسم المباشر، التين والزيتون! فقد مال عدد من المفسرين ممن يختلفون عن دلالة النص الظاهر، بأن التين والزيتون هما مسجد فى دمشق ومسجد فى القدس، وبعض الأقوال الأخرى، وهكذا استخدم المتقدمون عقولهم للوصول إلى تفسير لهذا القسم العظيم، أى استخدام المجاز فى نصوص القرآن الكريم لتأكيد الفكرة وتثبيتها بين الناس، وهو أمر شائع ومعروف فى النص القرآني. ولكن لو افترضنا جدلاً أن «التين والزيتون» هما الفاكهة والنبتة المعروفة كما يذهب البعض، فهل لهما كل تلك الفوائد الصحية فى عصر يخضع للتجربة كل احتمال، خصوصًا المتعلق بصحة الإنسان وبدنه، أى معالجة الضعف الجنسى وعلاج مظاهر الشيخوخة، ولماذا قام المتأخرون بوضع وصفة خاصة وعدد محدد «تينة واحدة وسبع حبات زيتون»؟ لماذا سبع وليس خمسًا مثلاً؟ فى محاولتى لتقصى بعض الحقائق القريبة إلى العلمية فى تلك المقولة، أردت أن أعرف فوائد «التين»، فوجدت أن شجرة التين من أقدم الأشجار المعروفة للإنسان، وبه كثير من الألياف والكالسيوم التى تساعد على الهضم «كما فى الحبوب الغنية بالألياف»، وُتحذر دراسة «بى بى سى» التى عدت لها لمعرفة أكثر عن التين، من مغبة أكل كميات كبيرة من التين، لأنه فى حال الإكثار منه قد يسبب «إسهالاً»! أما شجرة الزيتون فقد عرفت منذ القدم، كما عرفت فوائد الزيتون وهى متعددة، ولكن لم أجد لها علاقة بالإخصاب أو معالجة الضعف الجنسي!!
ضربت ذلك مثالاً، بأن الخرافة التى تنتشر بين الناس لها قواعد، منها الاعتماد على نصوص صحيحة معروفة وتفسير قديم لها ذى هوى!
ما أردت أن أقوله إن البعض يُحّمل النص القرآنى أكثر مما هو مقصود، فالقسم فى الآية الكريمة هو إنذار للبشر الذين لا يؤمنون بقدرة الله وكمال عطائه، حتى لو كانوا فى أحسن تقويم فى الحياة الدنيا، فهم إن أغضبوا الرب فإلى جهنم مصيرهم.
الإيمان بالتفسيرات غير العلمية وغير المنطقية ليس حكرًا على الثقافة العربية، فهذا الهامش يضيق أو يتسع فى الثقافات الأخرى، وحتى الثقافات الغربية المتقدمة، إلا أننا نتحدث عن مدى اتساع هذا الهامش فى ثقافتنا المعاصرة، فكلما تقدم العلم ضاقت الخرافة والتفسير الخرافى، وكلما تناقصت مساحة العلم زادت مساحة الخرافة. بعض الخرافات ما زالت عالقة ومنتشرة، ومغذاة من أصحاب مصالح سياسية، يستثمرون كلاً من الجهل والعاطفة لتسهيل مهامهم فى اختطاف الشعوب واستعبادها، وتدمير ثروتها الإنسانية والمادية، وإلا كيف نفسر أن الخلاف الذى وقع فى السنوات الأولى من الدعوة على أمور اجتهادية وسياسية، يقود بعضنا اليوم إلى التعصب والعداوة والحروب، كأنه قد وقع بالأمس، أليس ذلك بسبب ضعف المناعة الثقافية التى لا تفرق بين الماضى البعيد، واليوم المعيش؟!
نقلاً عن الشرق الأوسط