منذ سنوات بعيدة تزيد على نصف قرن كتب صلاح جاهين وهو فى عز فرحه بالمشروع الناصرى، يؤكد أن عبدالناصر سيبنى «أوبرا على الترعة».. كانت مصر وقتها فى حاجة إلى تفاؤل صلاح جاهين.. إلى الصحرا التى ستخضر.. وإلى المهندس اللى على رأس الشبان الاشتراكيين واقف بيهندس على الميه.
عمل المصريون فى المحاجر.. وفى السد.. وفى الألومنيوم.. وقرأ المصريون الألف كتاب بملاليم.. وشاهدوا مسرح التليفزيون الذى صار عربيا.. فكان من الطبيعى أن يحلموا بأوبرا على «الترعة».. ورغم ذلك غضب بعض المثقفين من تلاميذ صلاح من هذه «الأكذوبة» التى سقطت مع سقوط مصر فى ٥ يونيو ١٩٦٧.. بعدها دخل عمنا جاهين فى مرحلة الاكتئاب الشهيرة.. وعاقب نفسه كثيرا.. وحاول الخروج من ذلك الاكتئاب اللعين بأغنيات من نوعية «خلى بالك من زوزو».. و«قفلى على كل المواضيع».. وظل لسنوات يعاقب نفسه، لأنه من وجهة نظره باع الوهم للناس حتى مات..
وفيما نحن نتابع بشغف، يشبه طريقة متابعتنا لمباريات الكورة، مفاوضات صندوق النقد مع المجموعة الاقتصادية للحصول على قرض.. سلفة يعنى يعلم الله وحده كيف سنتحمل آثارها فيما يضج الناس على المقاهى وفى الأتوبيسات من تبعات إصلاح اقتصادى ترعاه الحكومة ويراه البعض عبئا إضافيا وزيادة فى الأسعار، وبخاصة للخدمات الضرورية.. كهرباء ومياه وتعليم.
فى هذا الوقت بالتحديد أجدنى مصدومًا من تصريحات وزير الثقافة الكاتب حلمى النمنم بأنه بصدد إنشاء أوبرا فى الأقصر..
مبررات وزير الثقافة تصب فى سكة أن الصعيد عانى منذ سنوات من عملية تهميش، وهذا صحيح، وأن العدالة الثقافية (لاحظ جمال وروعة المصطلح) تقتضى أن ينعم أهل الصعيد بأوبرا.. مثلما حصل أهل بحرى على واحدة فى دمنهور وأخرى فى الإسكندرية.. بالإضافة طبعا للأوبرا الأم فى القاهرة.
تصريحات الوزير عن العدالة الثقافية وجيهة بالفعل.. وعن محاربة أفكار الإرهاب بالصعيد بالفكر والثقافة أمر أكثر من رائع وبديهى وجاد.. لكن ما استوقفنى فعلا هو «ضرورة» أن يحدث ذلك الآن فى هذا التوقيت الصعب.. هل ناقش معاليه مع محافظ الأقصر مدى احتياج أهلها الآن للأوبرا؟! هل الملايين التى سيتم صرفها فى ذلك المبنى وما يتبعه من حفلات افتتاح وتكوين فرق أو استخدام فرق لتعرض فنونها الأوبرالية فى الأقصر ملائم وتستطيع الحكومة توفيره الآن.
أحد الأصدقاء أزعجنى بفكرة وجود أموال فى الموازنة لا يستطيع الوزير تحريكها من مكانها.. ولازم تنصرف.. يعنى لازم نبنى أوبرا لو الأقصر بكل سكانها هتموت من الجوع.. الميزانية جاية كده ولازم تنصرف كده..
أصدق الوزير النمنم فى نواياه.. وأشد على وعيه.. لكننى لن أفهم قطعا معنى يخالف ما تربينا عليه من أن «اللى يعوزه البيت يحرم على الجامع».. نحن نحتاج يا معالى الوزير الآن لتنفيذ فقه الأولويات.. الأقصر تحتاج إلى أوبرا لكنها تحتاج إلى «لقمة عيش».. خصوصا مع توقف أنشطة السياحة فيها.. يحتاج الفلاحون هناك لدعم السماد عشان يعرفوا يزرعوا القمح.. ويحتاج أهلها للثقافة أيضا.. لكنها ليست الأوبرا.. مش عايزين مبانى.. البلد فيها آلاف من قصور الثقافة التى لا تمارس أى نشاط.. لأن السيارات لا تجد قيمة البنزين.. ولأن بعضها لا يجد مائة جنيه قيمة مكافأة لكاتب كبير قد يزورها.. بعض بيوت الثقافة تم تخزين كتبها مع «الحمير» فى بيوت قديمة، ولو مش مصدقنى يجى أنا أروح معاه وأوريه بعينه..
محاربة التطرف بالثقافة فرض عين.. واختيار الأولويات فرض عين.. وتوفير هذه الأموال لبنود أخرى واجب.. وممكن ما تروحش السجن يا معالى الوزير لو خاطبت وزير المالية والبرلمان وشفتوا صرفة.. نحتاج لأفكار جديدة نعم.. ولكن فى حدود مما نملك وما نملكه كبير جدا.. ثروتنا من المبدعين فى كل نجوع مصر تحتاج إلى طريقة جديدة فى إدارتها وتفجير طاقاتها.. أما حكاية إن إحنا نبنى أوبرا على النيل -مش الترعة- فده اللى ممكن يودينا فى سكة إحباط عمنا جاهين.. لأن الناس جعانة.. والجوع كافر.. والجعان مجنون.. والمجنون مش بيتفرج على الأوبرا يا معالى الوزير.