حلت هذا الشهر ذكرى ثورة ٢٣ يوليو؛ ويحمل هذا الشهر ذكرى شخصية ترتبط بملمح من ملامح حقبة عبدالناصر؛ ففى ٢٥ يوليو ١٩٦٣ خرجت من المعتقل ومعسكر التعذيب لأواجه الحياة من جديد بعد ما يقرب من أربع سنوات. كان الاعتقال مختلفا آنذاك. لم نكن قد سمعنا عن مؤسسات حقوق الإنسان ولا عن ضرورة العرض على النيابة إلى آخره. كانت التفرقة واضحة صارمة آنذاك بين «المسجون السياسى» الذى صدر بحقه حكم قضائى ويخضع للائحة السجون التى تسمح بالزيارات واللجوء للقضاء تظلما، و«المعتقل» المحروم من كافة تلك الحقوق الذى لم يكن فى مقدور أسرته معرفة مكان احتجازه؛ واتضح ذلك الفارق حين جمعنا معتقل الواحات فكنا نعتمد فى أخبارنا ومؤونتنا على أصدقائنا من المسجونين الذين صدرت بشأنهم أحكام. وكلما هلت ذكرى يوليو وجدت نفسى أواجه سؤالا هاما: كيف يمكن تقييم «عصر عبدالناصر»؟، ذلك العصر الذى مازالت جماهير غفيرة من المصريين تحمل صور عبدالناصر كلما ضاقت بهم الحياة.
من الناحية المنهجية والوطنية أيضا ينبغى الحذر من أن يندفع المرء تحت وطأة معاناته الشخصية وإدانته لسلبيات حقبة تاريخية طالته آلامها إلى تجريد تلك الحقبة من أى إيجابية، أو تلويث تلك الإيجابيات؛ ومن ناحية أخرى لا ينبغى أن يندفع المرء فى سبيله للدفاع عن إيجابيات مرحلة تاريخية إلى حد ألا يرى أخطاءها وأن يبرر خطاياها؛ فمثل ذلك الموقف لا يعتبر خطأ منهجيا فحسب بل هو أيضا خطيئة سياسية ووطنية؛ حيث يؤدى عمليا إلى تكريس تقديس رموز بشرية تاريخية، ومن ثم ينزلق إلى تبرير الخطايا بحيث يقر فى الذهن أن تلك الخطايا لم يكن ممكنا تلافيها وتحقيق المنجزات بدونها، ومن ثم فلا بأس من تكرار نفس الخطايا إذا ما صاحبتها منجزات.
إن الدفاع عن الناصرية –فيما أري- لا يعنى تبرير انتهاك الحريات وتعذيب المعتقلين إلى حد القتل، ومن ناحية أخرى فإن معارضة الناصرية لا تعنى إدانة الانحياز للفقراء وبناء السد العالى إلى آخره.المرء غير ملزم بالدفاع عن تاريخ جماعته التى ينتمى إليها وتنقية صفحتها مهما شهد ذلك التاريخ من مظالم. ليس علينا لكى ندافع مثلا عن تاريخنا الفرعونى ونفخر به أن يقتصر حديثنا على ما يحفل به التاريخ الفرعونى من منجزات علمية وحضارية باهرة، دون أن نشير إلى تأليه أجدادنا لحكامهم. ولا يفرض علينا انتماؤنا للتاريخ الإسلامى أو المسيحى أن نركز على روحانية الدين وسمو القيم التى نادت بها الأديان، وأن نطمس على تلك الدماء التى سالت فى معارك بين بشر يحملون رايات دينية ويزعمون أو حتى يؤمنون بأن قتالهم إنما هو دفاع عن التفسير الصحيح للعقيدة؟.. بعبارة أخرى ليس ثمة ما يبرر تنزيه بشر عن الخطأ بل عن الخطيئة. لقد كانت تلك الحقبة الناصرية حافلة بالإنجازات والانكسارات. إنها الحقبة التى شهدت قرارات الإصلاح الزراعى وتأميم قناة السويس ثم تأميم الشركات الكبرى وبناء السد العالى، وهى أيضا الحقبة التى كرست سلطة الحزب الواحد، وهى ذات الحقبة التى شهدت للمرة الأولى فى تاريخ مصر تكريسا رسميا لفصل الذكور عن الإناث فى التعليم الجامعى بإنشاء كليات جامعة الأزهر وكلية البنات، وهى الحقبة التى شهدت قيام الوحدة المصرية السورية كما شهدت انهيارها، وهى الحقبة التى شهدت أعنف حملات اعتقالات وتعذيب للمنتمين لكافة التنظيمات السياسية المعارضة، وهى الحقبة التى شهدت واحدة من المرات النادرة التى خرج فيها الجيش المصرى ليقاتل وتسيل دماؤه خارج حدوده الوطنية فى اليمن، حيث فقدنا ما يزيد على ١٥ ألف شهيد، وهى الحقبة التى شهدت أيضا اختيار عبدالناصر لأنور السادات نائبا له بعد هزيمة ١٩٦٧ التى سالت فيها على أرض سيناء دماء ما يقرب من ١٠ آلاف شهيد. إنها حقبة شهدت ما هو إيجابى وما هو سلبى وما هو مثير للجدل؛ وكانت الحقبة بكل ما فيها تحمل اسم عبدالناصر وتحت مسئوليته.
ترى ماذا بقى من عبدالناصر بعد كل تلك السنوات يلهب حماس الجماهير ويجعلها ترفع صورته وتهتف باسمه وتردد أغانى عصره فى كل مناسبة احتجاجية؟. لقد مضى عبدالناصر وانتهى عصره، ولم يعد ثمة إغراء بمنصب ولا تخويف بعصا، بل إن بعضا ممن يهتفون باسمه ويرفعون رايته حتى اليوم أصابهم من عنت السلطة الناصرية الكثير، وكثير منهم لم يعاصروه. ولعل الاقتراب من هتافات المحتفلين بعبدالناصر يكشف بيسر أنهم يرون فيه رمزا للعدل الاجتماعى ولطهارة اليد وللاستقلال الوطنى وللانحياز للفقراء بحيث تخفت لديهم ملامح الديكتاتور المتسلط.
ويبقى السؤال قائما: ترى ألم يكن ممكنا بناء السد العالى وتأميم قناة السويس والسعى نحو العدل الاجتماعى دون قهر أو تعذيب؟، وهل استمرار توهج صورة عبدالناصر يعنى أننا ما زلنا على استعداد لتقديم حريتنا قربانا لهدف نراه الأسمى، كالعدل الاجتماعى أو التحرر الوطنى أو مكافحة الإرهاب؟، وهل تلك المقايضة حتمية أى أننا لا نستطيع أن نحقق عدلا اجتماعيا وتحررا وطنيا ومقاومة فعالة للإرهاب، مع الحفاظ على القدر الضرورى من الحرية وكرامة الإنسان؟.
أظنه حلما ولكنى أعتقده مازال ممكنا؛ مواجهتنا الشرسة والضرورية للإرهاب، وهى مواجهة موقوتة مهما طالت، تفرض علينا تأجيل الحلم دون نسيانه مع استمرار التذكير به من أجل المستقبل.