سوف تقرأ نتائج التصويت العام الأخير لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى من أكثر من زاوية، حتى الآن النتائج أحدثت زلزالاً مدويًا فى الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية على مدار الكرة الأرضية، القراءة من زاوية (عوار آليات الديمقراطية الغربية) لم توضع فى أولويات النظرة الأعمق لما عرف (بأفضل أسوأ أنواع الحكم) فى عالم ما بعد الثورة الصناعية.
واحدة من الأوقات القليلة التى تخضع فيها (آليات العملية الديمقراطية، وصناديق الانتخاب) إلى التساؤل العميق والصعب.. ما هى الكوارث التى يمكن أن يحدثها السياسى وهو يلعب بالآليات الديمقراطية المُتاحة؟ نتيجة الاستفتاء الأخير فى بريطانيا جاءت بأغلبية بسيطة مرجحة للخروج (٥١ فى المائة مقابل ٤٨ فى المائة تقريبًا)، وسرعان ما أفاق الجمهور على هول ما فعل، فبدأت الاعتراضات والمراجعات، وسوف ترى بريطانيا وأوروبا مراجعات جذرية لشكل آليات الحكم الذى اختارته، ولكن بعد أن تدفع الشعوب ثمنًا باهظًا لها.
فى التفاصيل، أن بريطانيا فى معظم النصف الثانى من القرن العشرين كانت تراوح بين حكم حزبي المحافظين والعمال، فى فترات قليلة تصعد أحزاب صغيرة تحوز نسبة من الأصوات، ولكنها لا تصمد كثيرًا. فى العقد الأخير من القرن العشرين شعر الناخب البريطانى، خاصة بعد الإصلاحات التى قامت بها السيدة مارجريت ثاتشر (أواخر الثمانينيات) أنه يحتاج إلى تغيير، فاتجه إلى حزب العمال الذى غير من جلده، فحكم ثلاث عشرة سنة (من ١٩٩٧ الى٢٠١٠)، وهزم المحافظين فى ثلاثة انتخابات عامة متوالية. بحث حزب المحافظين عن طرق جديدة لكسب الجمهور، فغير فى طروحاته، واقترب من الوسط، فى الوقت نفسه الذى تغيرت فيه بريطانيا، ولكن انتخابات ٢٠١٠ التى أوصلت المحافظين إلى الحكم كانت بأقلية ضئيلة، اضطر معها السيد ديفيد كاميرون (أصغر رئيس وزراء فى تاريخ السياسة البريطانية) أن يشارك حزبا آخر فى الحكم وهو حزب الديمقراطيين الأحرار، كانت حكومته الأولى (برأسين) وهنا تكمن الأزمة. فتمهيدًا لانتخابات مقبلة غير مؤكد الفوز فيها (٢٠١٥) ظهرت بقوة فكرة الاستفادة من موضوعات المهاجرين ومشكلات الاتحاد الأوروبى التى تؤرق بعض الجمهور البريطانى للحصول على أصوات، قرر كاميرون أن يلعب على عواطف الناخب البريطانى للفوز، وكان على معرفة بالشعور العام المعادى (لأوروبا) وتعظيم المشكلات المقبلة من بروكسل واهتزاز اليقين لدى الناخب البريطانى، وعد كاميرون- إن ربح الانتخابات (فى عام ٢٠١٥)- بأن يستفتى الجمهور فى البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبى، ذلك الوعد حمل السيد كاميرون وحزبه إلى الفوز فى انتخابات ٢٠١٥ بنسبة غير متوقعة، أى الحصول على أغلبية برلمانية مريحة، دخل بعدها على عجل فى مفاوضات مع بروكسل، وحصل على تنازلات أكثر مما كان لبريطانيا من الاتحاد الأوروبى، فبريطانيا كانت قد أعفت نفسها من (الفيزا الشاملة للاتحاد) (شينجن)، كما أعفت نفسها من العملة الموحدة (اليورو)، كما أعفت نفسها من الخضوع إلى البنك المركزى للاتحاد، فأصبح بنك بريطانيا المركزى هو القائم على رسم السياسة المالية، لقد حصلت (الأخت الكبرى المدللة!)، على كل تلك الإعفاءات.
والكثير من الامتيازات التى أخذتها لندن من بروكسل لم يستطع كاميرون أن يُسوقها لجمهور سُقى على مر سنوات طويلة أن كل مشكلاته الحياتية تنبع من بروكسل! وكان ذلك يناسب السياسيين، أضيف عليها الخوف المرضى من اللاجئين والمهاجرين، فأصبح كاميرون فى النهاية ضحية (وعوده) التى صعد بها إلى الحكم. وهكذا دخل فى الفخ، وصوت الناخب البريطانى بـ٥١ فى المائة (أغلبية ضئيلة) إلى جانب الخروج. يظهر هنا ذلك الضعف فى آلية الديمقراطية الغربية وسهولة استخدامها من خلال تقديم وعود لكسب الناخب، حتى لو كانت مضرة بالدولة واقتصادها، كما أن الكتلة المرجحة كتلة صغيرة نسبيا (بضع مئات من الآلاف)، فمجموع الذين صوتوا ممن تحق لهم المشاركة كان ٣٠ مليونا بنسبة ٧١ فى المائة تقريبًا من حجم من يحق لهم التصويت، أى أن هناك نحو ١٤ مليون صوت ضد الخروج (٤٨ فى المائة)، وهناك نحو ١٢ مليونا لم يذهبوا للتصويت! هذه ظاهرة مرضية فى الديمقراطيات الغربية بشكل عام.
السيد باراك أوباما، حصل على ٥٢.٩ فى المائة من أصوات الناخبين فى عام ٢٠٠٨، وعلى ٥١.١ فى المائة من أصوات الناخبين فى عام ٢٠١٢، إلا أن هناك نحو ٨٠ مليون ناخب أمريكى يحق لهم التصويت ولم يشاركوا فى الحالتين، كما حصل السيد فرنسوا هولاند على ٥١.٦ فى الانتخابات الفرنسية عام ٢٠١٢. أيضا بعدم حضور نسبة كبيرة ممن تحق لهم المشاركة! الظاهرة واضحة المعالم، أن هناك (كتلة حرجة صغيرة نسبيًا) فى الجمهور المصوت فى الديمقراطيات الغربية الحديثة هى التى تقرر مصير البلد كاملا، وليس هناك (رأى أو ثقل) لتلك الكتلة الثانية (الكبيرة) المصوتون ضد، التى كان لها رأى مخالف، وأيضا الذين امتنعوا (والفريقان هما الكتلة الأكبر من المواطنين)، فعن أى ديمقراطية نتحدث؟ ذلك من جهة، أما من الجهة الثانية التى تظهر هشاشة الديمقراطية الغربية، هو حجم الممتنعين عن الإدلاء بأصواتهم! فى انتخابات مايو (أيار) ٢٠١٥ البريطانية التى أوصلت كاميرون إلى سدة الرئاسة منفردا، كان الإقبال فقط ٦٦٪. والسؤال ماذا عن الكتلة الكبيرة التى هى أكثر من الثلث بقليل التى يحق لها التصويت ولم تفعل؟ بعض الدول الأوروبية فى الشمال وأيضا تركيا تفرض ضريبة على المواطن الذى لا يشارك فى الانتخابات العامة، لكن هذه العملية غير معممة فى أغلب الديمقراطيات الغربية، ولا يفضلها السياسيون على كل حال! فقط الجنرال شارل ديجول ١٩٦٩ اشترط الثلثين ولم يحصل عليها! إذا عوار آليات الديمقراطية الغربية واضحة، استخدام عاطفى لمثيرات غير واقعية (التخويف من بيروقراطية بروكسل فى الحالة البريطانية والمهاجرين)، والحصول على أصوات للوصول إلى الحكم، وضعف كبير فى الإقبال على صناديق الانتخاب!
هنا نبدأ بالتوقع فى الانتخابات المقبلة فى الولايات المتحدة، ليس من المستبعد استخدام آليات التخويف وقلة الإقبال مجتمعة، وأن نرى السيد دونالد ترامب فى البيت الأبيض فى مطلع السنة المقبلة، حيث استخدم بمهارة اللعب على العواطف العامة (التخويف من المسلمين والأجانب)، والوضع الاقتصادى المتردى (تراجع الاقتصاد الأمريكى، وهجرة الصناعات إلى الخارج)، مع مجموعة مهددات أخرى حتى يحصل على ترشيح الحزب الجمهورى الغارق فى الخلافات، كل جمهوره من البيض المتشددين الذين أقبلوا بحماس للتصويت له، وبالتالى يمكن أن يتكرر إقبال المتحمسين لترامب فى تصويت الخريف المقبل، وأن يصل إلى البيت الأبيض على جسر من أقلية الأقلية! إن الغرب اليوم، صاحب أطول تجربة (ديمقراطية) أمام مفترق طرق، يكتشف هشاشة آليات هذا النظام كما طبق حتى الآن، وضرورة إعادة النظر فى تلك الآليات، التى تضعف مع التقدم التقنى وتأثيرات عوامل العولمة التى تتيح لشرقى أن يتحول إلى غربى (مُهاجر أو مُهجر) فيشيع جوا من عدم اليقين يدفع المجتمعات الغربية إلى اليمينية فى المواقف السياسية، تمتطيه طلاب السلطة من الساسة، مستخدمين عوار تلك الآليات للوصول إلى كراسى الحكم، بصرف النظر علن مصالح الجمهور الأوسع، الذى يعانى اليوم نتيجة تلك الهشاشة فى الآليات المتبعة من تعصب وتزييف فى الحقائق، بل وربما صعود فاشية جديدة تؤدى إلى احتمال اندلاع حروب!
آخر الكلام:
التخويف من المهاجرين والمسلمين فى أوروبا والولايات المتحدة هو (كذبة العصر الكبرى) التى يريد أن يصدقها البعض، الدراسات تقول إن ٩٠ فى المائة من عمليات الإرهاب فى أمريكا يرتكبها غير مسلمين! وبعض الدارسات تقول إن وجود المهاجرين فى المدن الأوروبية يقلل نسبة الجريمة (بما فيها القتل)!
نقلا عن «الشرق الأوسط»